حرب المسلمين، وغزو بلادهم، واحتلال أرضهم ونهب خيراتهم، هذا هو المعروف المألوف، يعرفه الجيل الحالي وقد عايشه في احتلال فلسطين، والحرب على أفغانستان، وغزو العراق، وتدمير سوريا، لكن لأول مرة نرى حربا بين الغزاة أنفسهم تدور رحاها على أرضهم، وهي بلية حلت بالشعب الأوكراني الذي وجد بلاده مسرح أحداث تتصارع فيها القوى الكبرى على مفاصل السيطرة وأماكن النفوذ، بين أمريكا ومعها القارة العجوز، وبوتين ومن خلفه التنين؛ حيث ترى أمريكا أهمية عرقلة حلف روسيا والصين، ومنعهما من المنافسة على الصدارة، وفي المقابل يرى بوتين أن الحلف الغربي يعبث بأمنه القومي، ويتمدد على حساب أماكن نفوذه، وينشئ تكتلات على حدوده، ومع هذه الحسابات العالمية المتشابكة، فإن المسلمين غير بعيدين عن شرر هذه الحرب، بل يمكنهم الاستفادة من نتائجها وتأثيراتها، ولعل ما سقط من أقنعة، وما ظهر من عنصرية وازدواجية، أول غنائم معركة الوعي.
أما الشأن الإسلامي الخاص الذي كثر السؤال عنه مع بداية غزو روسيا لجارتها أوكرانيا، فهو حكم القتال في هذه الحرب، وحال المسلمين الموجودين في هذه البلاد، ويأتي بيان ذلك في ثلاثة أقسام:
أولا: الجندي الروسي المسلم
لا ينبغي له القتال؛ لأن جيشه جيش غزو وبغي واحتلال للجيران، وعلى المسلم من البداية ألا ينخرط في مثل هذه الجيوش التي تقتات على القتل وتستثمر في الحرب، ويتحمل في سبيل ذلك الغرامة أو ما يطيقه من عقوبة، كما فعل الملاكم المسلم محمد علي كلاي لما رفض الانضمام إلى الجيش الأمريكي في حرب فيتنام، وإذا تعرضت حياة الجندي الروسي المسلم للخطر إن تخلف، فقد أصبح مكرها وله أحكام الاضطرار، وله المشاركة على أن يتجنب مواطن القتال، لئلا يقتل بريئا، وتتأكد الحرمة إن كان القتال ضد المسلمين، وإن قُتل الجندي المضطر بعث على نيته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (5/121) عند كلامه على الكفار: “وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه، يشهد القتال معهم، ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال، ويُبعث يوم القيامة على نيته، كما في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “يغزو جيش هذا البيت، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم” فقيل: يا رسول الله، وفيهم المكره؟ فقال: “يُبعثون على نياتهم”. اهـ
ثانيا: الجندي الأوكراني المسلم المعتدَى على بلده، عليه أن يرد الاعتداء ويقاتل مع جيش بلاده، حتى لو كانوا أقلية في دولة كافرة؛ لأنهم في حالة دفاع شرعي عن النفس، وهو حق مشروع ليس ضد الروس فقط، بل لو اعتدى عليهم مسلم لسلب مال أو قتل نفس، فيُدفع بما يندفع به، وهو ما يعرف برد الصائل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “السنة والإجماع متفقان على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قُتل، وإن كان المال الذي يأخذه قيراطًا من دينار؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون حرمه فهو شهيد”. وقال الإمام ابن قدامة في المغني: “إن لم يمكنه دفعه إلا بالقتل، أو خاف أن يبادره بالقتل إن لم يقتله، فله ضربه بما يقتله، أو يقطع طرفه، وما أتلف منه فهو هدر، لأنه تلف لدفع شره، فلم يضمنه”.
ثالثا: المسلم من غير البلدين المتحاربين
إذا كان بين المسلمين وبين الكفار حلف أو عهد، ووقع على حلفائهم حيف أو ظلم، واستنصروهم فعليهم النصر، والسعي في رفع الظلم، فقد أبرم رسول اللهﷺ اتفاقية دفاع مشترك بين أهل المدينة وفيهم اليهود، ولما استنصره حليفه عمرو بن سالم الخزاعي على قريش وحليفتها بكر، قال له: نصرت يا عمرو بن سالم.
أما أن يتدخل المسلمون لمؤازرة الظالم ومساعدة الباغي، كما حدث من رمضان قاديروف ومن معه من جند الشيشان المسلمين في الحرب مع الروس ضد الأوكران ، فهو تعاون على الإثم والعدوان، ومشاركة في البغي والظلم، وموالاة للظالمين ومخالفة لأصل الولاء والبراء، قال الله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (المائدة: 80)، وقال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: 113). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم: “أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين” رواه النسائي وأحمد.
والله من وراء القصد وهو الهادي سواء السبيل.