اعتذر بابا الفاتيكان فرانشيسكو لوفد من مجتمعات السكان الأصليين يضم شعوب “ميتيس” و”الإنويت” و”فيرست” و”الخلاسيين” وغيرهم مطلع أبريل/نيسان 2022، معترفًا بالضرر الذي لحق بالمدارس الداخلية في كندا، بعد العثور في أغسطس/آب 2021 على أكثر من ألف قبر قرب مدارس داخلية.
وأقرّ أساقفة كنديون بـ”المعاناة التي عاشها تلامذة المدارس الداخلية” وبـ”الانتهاكات الخطرة التي ارتكبها” بعض من أبناء الطائفة الكاثوليكية، في حين قال مؤرخون كنديون إنه بين عامي 1883 و1996 أجبر نحو 150 ألف طفل من السكان الأصليين، وتحديدا من الهنود الأميركيين والخلاسيين وشعب الإنويت، على “الاندماج” داخل المجتمع الأبيض في كندا، وفُصلوا قسرا عن عائلاتهم ولغتهم وثقافتهم، وأودعوا في 139 من هذه المدارس الداخلية في جميع أنحاء البلاد من أجل تشريبهم الثقافة السائدة قسرا.
تعرض العديد منهم لسوء المعاملة أو الاعتداء الجنسي، وتوفي بين 4 إلى 6 آلاف شخص في تلك المدارس، وفقا للجنة الحقيقة والمصالحة الكندية التي خلصت إلى أن ما حدث كان “إبادة ثقافية” حقيقية.
قصة باري كينيدي
وفي هذا التقرير الفائز بجائزة “أفضل قصة صحفية” في حفل توزيع جوائز جمعية الصحفيين الأميركيين الأصليين (NAJA)، تروي مراسلة “الجزيرة الإنجليزية” براندي مورين بعض قصص أولئك الضحايا، حيث لا يزال الناجون منهم يعانون من ضرر نفسي حتى الآن.
يحدق باري كينيدي (62 عاما)، من مقاطعة ساسكاتشوان بكندا، وهو يبكي في حقل مملوء بالعظام يحتوي على قبور غير مميزة لأطفال الهنود الحمر الذين لقوا حتفهم في مدرسة ماريفال الداخلية السابقة، التي كانت في أحد الأيام تقف على بعد أمتار فقط من المقبرة الحالية.
يروي باري كيف التحق بالمدرسة التي تموّلها الحكومة الكندية وتديرها الكنيسة الكاثوليكية من سن الخامسة إلى الـ11.
وكانت إحدى المنظمات أعلنت في يونيو/حزيران 2022 العثور على 751 قبرا في الموقع، من دون شواهد، يُعتقد أنها قبور لأطفال وبالغين على حد سواء، أطلق عليها باري عبارة “الفضيحة المدوية”، وقال “لم يصدقنا أحد أبدا… الآن، أعتقد أن المجتمع الكندي يشعر بالحزن لأن كل هذه الفظائع حدثت باسمه”.
كان عدد المدارس الداخلية هذه 139 مدرسة التحق بها ما يقدر بنحو 150 ألفا من أطفال السكان الأصليين في كندا؛ افتتحت المدرسة الأولى في عام 1831 وأغلقت المدرسة الأخيرة في عام 1996. وكانت هذه المؤسسات تهدف إلى تقويض الثقافة واللغة والروابط الأسرية والمجتمعية للسكان الأصليين، وتمتعت بسمعة سيئة بسبب إهمال وإساءة معاملة الأطفال الذين أُجبروا على الالتحاق بها.
مات آلاف من أطفال السكان الأصليين في المدارس، وظهرت العديد من التقارير عن العثور على رفات أطفال بالقرب من المدارس السكنية السابقة في جميع أنحاء كندا، في حين يواصل السكان الأصليون البحث عن أطفالهم المفقودين.
“اليوم الذي جاؤوا فيه”
يتذكر باري اليوم الذي جاؤوا فيه لأخذه هو وإخواته، كان عمره 5 سنوات حينئذ.
كان صباحا من أيام الخريف، وكان بالمنزل في المقصورة حيث كان يعيش مع والديه وإخوته السبعة عندما انفجر الجحيم فجأة.
أول ما سمعه من أصوات هو صراخ والده، ثم رآهم في المدخل: ممثل الحكومة الكندية في الحجز، وضابط شرطة، وكاهن، وآخرون من المدرسة الداخلية.
يقول باري “جمعت والدتي الأطفال وأخذتهم إلى غرفة نوم، وطلبت منهم عدم الخروج، وغادرت الغرفة، وانفجر صراخها. لا أتذكر الكلمات، لكنني سمعتها وهي تبكي وتصرخ.. كان والداي يقاتلان لحمايتنا، لكن من دون فائدة”.
ويتابع “ذهب والداي إلى مدرسة داخلية، كان هناك سبب لهذا الصراخ لأن والدتي كانت تعرف ما نحن بصدده، لم يكن هناك خيار على الإطلاق. كان عليهم أن يفعلوا ذلك، وإلا كانوا سيذهبون إلى السجن”.
يهز باري رأسه ويحمر وجهه من الغضب؛ إنه لا يتذكر حتى إن كان قال وداعا لوالديه.
“الوحوش المفترسة”
جرّوه مع 3 من شقيقاته إلى مركبة كانت تنتظر، وألقي به في المقعد الخلفي. يقول إنه شعر بأنها أطول رحلة في حياته، لم تكن لديه فكرة بعد ذلك إلى أين يتجه أو لماذا.
يقول “كنا جميعا نبكي، وتجمعنا معا في محاولة لتعزية بعضنا بعضا، ومحاولة الاختباء وراء بعضنا”.
عندما توقفوا أخيرا بالقرب من مبنى كبير من الطوب يشبه الكاتدرائية، أخرجوا شقيقات باري من السيارة، كنّ سيبقين في سكن الفتيات بالمدرسة، اقتيد هو إلى حجرة الأولاد، وأخرجه كاهن من السيارة.
يقول إن الخوف تغلب عليه، وحاول الهرب، فقبض عليه وأرسل ليصطف مع الأولاد الآخرين لإكمال الإجراءات. جُرّد من ملابسه، وحلق رأسه، وأجبرته نساء شاحبات الوجه على الاستحمام بماء بارد من الرأس إلى أخمص القدمين، يقول “كأن شخصا ما يمسك بك، ويركلك أثناء هذه العملية”.
ثم أُعطي فراشا وبعض الملابس، وأرسل إلى غرفة كبيرة بها أسرّة أطفال.
في تلك الليلة، بينما كان ينام مع 100 صبي أو نحو ذلك، سمع أصواتا غريبة. لقد فهم حينئذ أن “الوحوش” كامنة في الظلام، وسرعان ما اكتشف من هم هؤلاء الوحوش.
كُلّف الموظفون المعروفون باسم “حراس الليل” بمراقبة الأطفال أثناء نومهم، يقول “عندما يفتح هذا الباب ويسطع الضوء في المسكن، يمكنك سماع النشيج”؛ كانوا يجوبون صفوف الأسرة ويتحرشون بالأطفال.
قال وهو يختنق “لن أنسى الرائحة أبدا”، ويشرح كيف كان الأولاد يلوثون ملابسهم الداخلية بدافع الخوف، وكان آخرون يفعلون ذلك عن قصد لمحاولة إبعاد المعتدين عنهم في تلك الليلة.
طوال السنوات الست التي قضاها هناك، تعرض باري للتحرش بانتظام. الدموع في عينيه، والغضب في صوته وهو يقول “كانوا مفترسين”.
“حين عرفت الموت”
وبينما كان يجول في حقل القبور المملوء بصفوف من المصابيح الشمسية ودمى الدببة والأزهار البلاستيكية الملونة التي جلبها المشيعون في الأشهر القليلة الماضية، عادت ذكريات مؤلمة أخرى إلى الظهور.
كان يبلغ من العمر 8 سنوات عندما أوقظ في وقت مبكر من صباح أحد الأيام، وطُلب منه ارتداء الجلباب الذي كان يرتديه عندما كان يعمل صبي مذبح، لمساعدة رجال الدين في خدمات الكنيسة. أخذه كاهن وبعض صبية المذبح الآخرين إلى مكان خلف الكنيسة. هناك، رأوا شخصا صغيرا ملفوفا بقطعة قماش بيضاء بجانب قبر محفور حديثا.
“لقد اضطررنا إلى المساعدة في أداء الواجبات الأخيرة للمتوفى”. توقف باري للإشارة إلى نقطة بعيدة، وقال “كان هناك في مكان ما… لا أعرف إذا كان صبيا أم فتاة لأنه كان ملفوفا بقطعة قماش فقط. كانت تلك المرة الأولى التي عرفت فيها… الموت”، كما يقول.
ويتابع “أعلم أنه بعد اليوم، سأشعر بالتعب الحقيقي. جسدي يصاب بألم حقيقي، أنا فقط أفضل أن أكون وحدي، وأبقى في المنزل بضعة أيام. ولاحظت زوجتي ذلك، وهي تساعدني”.
“كيف تسامح؟”
هناك وقت كانت فيه الصدمة تطغى عليه، وكان يلجأ إلى الكحول لينأى بنفسه عن مطاردة ماضيه. يقول إن والدته ووالده كانا يصليان له بصبر من بعيد.
وباري حاليا أب لـ9 أطفال وعمل لفترتين رئيسا لإحدى الشركات، ومع ذلك قال إن “كثيرا من الناس لا ينجون من الصدمة،” يتأمل ثم يوضح “أنا، أمشي على خط رفيع”.
هذا الخط الدقيق هو بين شفاء الماضي والعيش في الحاضر، “جزء من ذلك ينطوي على التسامح، لكنه ليس بالأمر السهل”.
“كيف تسامح؟”، يسأل باري “إذا كان بإمكان أحدهم إخباري كيف، فليفعل! كيف يمكنك التعايش مع ذلك؟ لقد فُعل هذا بنا، نحن الأطفال!”.
وأضاف “هذه الحقيقة يجب أن تخرج إلى النور”، ويردف أن هناك بعض الكنديين الذين يقولون “أوه، لماذا لا تتوقفون عن البكاء؟”.
ويأمل باري أن تُمنح الفرصة للناجين لمواصلة إخبار الآخرين عن المدارس الداخلية وتداعياتها، “لتقديم نصائح لضمان عدم حدوث ذلك مرة أخرى”.
“غير مسموح للهنود”
إلى الغرب عبر المناظر الطبيعية في البراري، على عتبة جبال روكي في كالغاري بألبرتا، تروي أورسولين ريدود البالغة من العمر 79 عاما، وهي ناجية أخرى من المدرسة الداخلية، قصتها أول مرة.
تتذكر روحها المحطمة حين قطعت ضفائرها في يومها الأول في المدرسة.
قالت بهدوء وهي ترتجف “كنت خائفة جدا”، وأضافت “لقد أصبت بصدمة لأنني كنت مثل الزومبي وأقوم بكل ما يطلبون مني القيام به”.
وعلى الرغم من أنها لم تفهم سبب تعرضها لسوء المعاملة، فإنها لم تكن أول تجربة لها مع العنصرية.
تتذكر أنها عندما كانت في الخامسة من عمرها، انضمت إلى والديها في رحلة تسوق إلى بلدة بالقرب من كويسنس. كانت بحاجة إلى المرحاض، لذلك أخذتها والدتها إلى مبنى خارجي عام خلف متجر، لكنها توقفت فجأة لتقرأ لوحة خشبية عليها كتابة سوداء، وقالت مباشرة “لا يمكننا الذهاب إلى هناك”.
تتذكر شعورها بالارتباك، وتقول “لم أستطع أن أنسى ذلك، أستطيع أن أرى الكتابة حتى يومنا هذا على الرغم من أنني لم أكن أعرف ما تعنيه في ذلك الوقت”، قالت “غير مسموح للهنود الحمر”.
في النهاية، أخذتها والدتها لاستخدام المرحاض في مطعم صيني “كان دائما جيدا تجاه السكان الأصليين”.
الخوف وانعدام الثقة
عندما سمعت، في الصيف، عن اكتشاف رفات للأطفال في جميع أنحاء كندا، أمضت وقتا في الحزن، قالت إنها شعرت بثقل روحها واضطرت إلى منع نفسها من الانهيار.
تتأمل، قبل أن تصمت للحظة، تأخذ نفسا عميقا وتبكي، ثم تقول “الأذى سيكون دائما هناك”.
يُعجب ابنها كيربي ريدوود (56 عاما) بشجاعة والدته وتفانيها في العمل لوقف دورة الصدمة، لكنه قال إنه شعر بعدم ارتياحها وهي تكبر؛ لقد عانت من كثير من القبح الذي أثر على جيله أيضا.
تبع كيربي خطى والدته، ليصبح اختصاصيا اجتماعيا، وهو الآن الرئيس التنفيذي لجمعية خدمات مجتمع مسكاناوه، وهي وكالة خدمات اجتماعية يقودها السكان الأصليون في كالغاري، ويقول إنها كانت سنوات طويلة ومؤلمة واحتاجت إلى وقت طويل للتعافي من الصدمة المتوارثة بين الأجيال “لكن كما تعلم، يعزو الجميع الصدمة دائما إلى المدارس الداخلية، لكن العنف الاستعماري كله كذلك”.
المصدر : الجزيرة