’’احكيلي عن بلدي‘‘ كان عنوان الحفل الغنائي الأخير لجوقة ’’الأوركسترا الكندية العربية‘‘، و ’’أبيض وأسود‘‘ عنوان الحفل المقبل الذي تبدأ عروضه من مدينة وندسور في مقاطعة أونتاريو في 27 آب / أغسطس. لمَ تشريع النوافذ على ذكريات الماضي مع كل ما تحمله من صور، لمَ استنباط الشوق والحنين؟ علما أن الحاضر بحداثته يستحوذ أيضا على اهتمام هذه الأوركسترا التي كانت الغاية الأولى من تأسيسها دمج الموسيقى الغربية مع الموسيقى الشرقية.
وفا الزغل ولميس عودة مؤسسا الأوكسترا يتحدثان من تورونتو عن الريبرتوار الذي سيتضمنه الحفل الجديد، كما يعيدان سرد بداية المشوار والغاية التي استدعت وجود الأوركسترا التي انبثقت منها عدة تظاهرات ثقافية رائدة.
…تبلور حلمهما المشترك في كندا
ولد وفا الزغل في القدس وأبصرت لميس عودة النور في مدينة تورونتو في مقاطعة أونتاريو. جمعهما عشق الموسيقى العربية وحلم مشترك تكونت ملامحه على عدة مراحل. هذا ولا زال الزوجان والثنائي الفني يتطلعان إلى بلوغ المُبتغى وتغيير ’’بعض الأحكام المسبقة عن الدول العربية في المجتمعات الكندية‘‘.
لهذه الغاية السامية، تُقلّب ’’الأوركسترا الكندية العربية‘‘ في دفاتر الماضي البعيد، قبل مائة عام وأكثر ’’عندما كانت الحضارة العربية مزدهرة ولها بصماتها في الكون بأسره على مختلف المستويات‘‘، كما يقول وفا الزغل.
نشأ المتحدث على وقع الأنغام الشرقية الكلاسيكية التي كان يعزفها والده وكان شغوفا بها. درس آلة القانون في معهد ’’إدوارد سعيد الوطني للموسيقى‘‘ في القدس، ليصبح مديره الأكاديمي فيما بعد، قبل أن يهاجر إلى كندا في العام 2013.
ولدت الفنانة لميس عودة في المدينة الكندية الملكة، وعاشت معظم حياتها في الأردن والقدس حيث درّست الموسيقى واستلمت إدارة ’’معهد إدوارد سعيد للموسيقى‘‘ بدورها. عازفة بيانو من الطراز الأول وحائزة على الماجستير في الأداء الموسيقي من المملكة المتحدة.
توافقت المسارات في حياة وفا ولميس، لـ ’’يُغرّب هو آلة القانون‘‘ و’’تُشرّق هي آلة البيانو‘‘، وفي حين يعدّ وفا الزغل لألبوم باكورة يجمع المقطوعات الموسيقية الأصلية بحلّة العصر، تعدّ لميس عودة من جهتها، لإصدار كتاب أغاني على ’’بيانو شرقي عربي‘‘ للمبتدئين.
تنصهر كل الأحلام والأفكار المبتكرة والطموحات لدى هذين الزوجين في بوتقة واحدة وتنشد لحنا واحدا منسجما، متناغما ومتناسقا.
(تقول كلمات هذه الرائعة الغنائية التي كتبها الموسيقار اللبناني الراحل زكي ناصيف: ’’هلّي يا سنابل هلّي، هلّي فوق بيادرنا، عالبيادر لما تطلي طلّة بتشرح خاطرنا‘‘… ونسمعها بأداء الأوركسترا الكندية العربية الرائع.)
الهيكلية الأولى للحلم تشكلّت في العام 2014 مع تأسيس ’’الأوركسترا الكندية العربية‘‘، تلاها إطلاق ’’المعهد الكندي العربي للموسيقى‘‘، وفيما بعد ’’مهرجان الموسيقى والفنون العربية‘‘ في العام 2017 ومؤخرا ’’مهرجان ميسيساغا للموسيقى العالمية‘‘.
’’فريق العمل صغير ولكنه على مستوى من الاحتراف، تقول لميس عودة، إنه كبير بأفعاله ومجهوده وإنجازاته‘‘. هذا لأن غاية فضلى تجمع كافة المنضوين تحت مظلّة هذه التظاهرات الثقافية والمشاركين فيها، وهي ’’إحياء التراث الموسيقي الشرقي ومدّ الجسور بينه وبين التراث الموسيقي الغربي‘‘.
نسعى إلى إثراء الحياة الثقافية لمجتمعنا العربي من جهة، وإلى توفير الفرص المميزة للموسيقيين العرب الموجودين في كندا من جهة أخرى […] الموسيقى العربية غنية جدا والجمهور العربي ذواق، لذلك فهو يستحق كل ما هو مميز وجميل، ونحن نطمح لأن نقدم له الأفضل دوما. نحن نثمن تلك المسؤولية الملقاة على عاتقنا من أجل نشر صورة مشرّفة عن التراث والموسيقى الشرقية.
نقلا عن وفا الزغل، الرئيس والمدير التنفيذي في الأوركسترا الكندية العربية
’’أبيض وأسود‘‘ العرض الجوال الثاني لجوقة الأوركسترا بعد جائحة كوفيد-19
خمسون عازفا و25 منشدا يؤلفون جوقة الأوركسترا الكندية العربية بقيادة المايسترو الكندي السوري الأرمني وانيس مبيض. تخت شرقي من الطراز الأول يتقدمه وفا الزغل على القانون ولميس عودة على البيانو. هذه الأخيرة ترسم أيضا الإطار التاريخي والحضاري لهذه الأغنية أو تلك في مشهدية ملؤها الحبور والرقي، مثلما فعلت في حفل ’’احكيلي عن بلدي‘‘ الذي قدم في مونتريال ايضا في أيار / مايو الماضي.
نفِدت كل بطاقات العروض على جدول ’’الأوركسترا الكندية العربية‘‘ في غالبية المدن الكندية التي تستضيف حفلها الغنائي المقبل بعنوان: ’’أبيض وأسود‘‘. وهو العرض الخامس في مشوار الجوقة بعد توقف في العامين الماضيين بسبب الجائحة.
أهو التعطش إلى الحفلات بعد الجفاف الذي أصاب الساحة الفنية إبان الجائحة؟ أم هو توق دائم إلى عناق الماضي بكل الشوق والحنين لدى المتلقي العربي في كندا؟
إن الإجابتين تجوزان و تفسران ربما هذا الإقبال على عروض تستوفي شروط الأصالة والتراث والفولكلور الشرقي، في شكل أساسي، في الدرجة ذاتها لاستيفاء شروط الاحتراف. ويبدو أن إدارة الأوركسترا تعي تماما هذه الحاجة عند أبناء الجالية العربية في كل أنحاء البلاد، ولا تتوانى عن تقديم ما يطلبه الجمهور. هذا من دون ركن الرسالة الفضلى للأوركسترا على الرف، فعين على التراث والماضي وأخرى على الحداثة والتطوير، كما عودتنا هذه المؤسسة الثقافية الشاملة.
أبيض وأسود عنوان الحفل، لأن كل أفلام الأبيض والأسود في بداية السينما العربية كانت تتضمن الكثير من الأغاني، وقد شكلت تلك الأفلام الحقبة الذهبية للسينما المصرية. أضف إلى ذلك أن أغنياتها تتماشى مع رسالة الأوركسترا بشكل عام لأنها موسيقى كلاسيكية راقية.
نقلا عن لميس عودة، المديرة الفنية للأوركسترا الكندية العربية
تطمئن المتحدثة إلى أن الأغنيات لا تقتصر على حقبة الأبيض والأسود بل تتعداها إلى حقبة السينما بالألوان. إذ يجول الريبرتوار الذي تم اختياره للعرض المقبل، على عدد كبير من دول الشرق الأوسط ولا يقتصر على مصر التي شهدت ولادة السينما العربية وقدّمت أروع الأفلام في البدايات.
لا تتخلى لميس عودة عن الرسالة التي كرّست لها ذاتها بكليتها وهي رسالة المعلمة التي يتتلمذ على يدها الشباب من الأجيال الموسيقية. وتضطلع على خشبة المسرح أيضا بهذا الدور تجاه جمهورها. تطل لميس عودة باقتضاب وخفة ظل بين فينة وأخرى خلال الحفل، لتشرح بالانكليزية وتضع الإطار لهذه الأغنية أو تلك. وقد يكون جمهور مونتريال أحب إطلالاتها وفضلها على إطلالة مطولة ’’غير مقصودة‘‘ للمدير العام وفا الزغل ومدير العلاقات العامة والتسويق في الأوركسترا عمر نجار، على هامش الحفل الغنائي الأخير ’’احكيلي عن بلدي‘‘. شرح ممثلا الأوكسترا عن جدول الحفلات والأنشطة، خصوصا أن جمهور مونتريال لا يعلم بالضرورة الكثير عن الأوركسترا الكندية العربية، التي تحتضن مقرها مدينة ميسيساغا المتاخمة لمدينة تورونتو. يوضح وفا الزغل بأنه تم تصويب هذا الأمر في الحفلات الأخرى التي قدمتها الفرقة في عدد من المدن عبر أنحاء المقاطعات الكندية. وكان انطلق الحفل الافتتاحي من مدينة مونتريال، أم المهرجانات الفنية في كندا. هذه المرة مونتريال هي الثالثة في ترتيب المدن الكندية التي سيجول فيها عرض ’’أبيض وأسود‘‘ والموعد يوم 3 أيلول / سبتمبر 2022.
تساهم إطلالات المديرة الفنية للأوركسترا في كسر الحاجز بين الفرقة وجمهورها، ممن يأتي لأول مرة في شكل خاص. وتساهم عودة في فتح قنوات الاتصال مع الجمهور، يعود ذلك كلّه بمردود إيجابي على أعضاء الجوقة والفرقة الموسيقية، فيبلغ الأداء الذروة المرجوة.
يسود القلق في نفوسنا عندما نقدم إلى مدينة جديدة لا يعرفنا أهلها، وبالتالي لا يمكن التكهن بردة فعلهم على أدائنا. كل مدينة لها وجهها وجمهورها ولا يمكن التعميم في توصيف ردود أفعال الجمهور الكندي. في طبيعة الحال أن أهل البيت، في تورونتو وميسيساغا هم الأقرب إلى أعمالنا، وقد كُسرت بيننا وبينهم كل الحواجز، فهؤلاء يكونون على طبيعتهم في التفاعل والحماسة. أما في ما يتعلق بالمدن الكندية الأخرى، فإنني ألجأ إلى توطئة ومقدمات وشرح وأساليب أخرى تساهم في اختزال المسيرة وتقصير المسافة بيننا وبينهم.
نقلا عن لميس عودة، المديرة الفنية للأوركسترا الكندية العربية
’’… إنما هي فكرة لخلق الحاسة الموسيقية‘‘
يعقّب وفا الزغل بأن هذه المقاربة مع الجمهور هي لخلق الحاسة الموسيقية لديه. يقول: ’’هذه العملية تتطلب نشاطا مشتركا بين الفرقة الموسيقية والجمهور، وبقدر ما تذلل الحواجز بقدر ما يكون التفاعل إيجابيا. في طبيعة الحال أن تكون مديرة الأوركسترا مطلعة على كل النواحي المتعلقة بالموسيقى، وأن تأخذ على عاتقها إيصالها إلى الجمهور لتكسر الحاجز بينه وبين فرقتها، بانية في الوقت ذاته قنوات التواصل معه. وعندما تحقق هذه الرسالة أهدافها المرجوة، نبدأ كأعضاء في الفرقة، بالشعور بوحدة الحال بيننا وبين الحضور، وهذا يشكل لنا حافزا قويا على الإبداع والسلطنة‘‘.
يعتبر وفا الزغل أن نجاح الأوركسترا يعتمد على انصهار الواحد في الكل والكل في الواحد. وقد يفسر ذلك كثرة عدد الأصوات الإفرادية في جوقه الأوركسترا، ما هو غير مألوف في جوقات أخرى. ’’ليس الصوت الجميل هو المقياس وإنما الانسجام مع الكل ودعم هذا الكل للسوليست وإتاحة له الفرصة للإنشاد طالما أن هذه هي رغبته‘‘، كما يقول وفا الزغل.
يؤكد مؤسسا الأوركسترا الكندية العربية اللذين حاورتهما من تورونتو عبر تطبيق زووم ’’أن السوليست ينال الدعم في شكل خاص من أعضاء الجوقة، وينصاع لملاحظات قائدها من أجل تطوير الخامة والإمكانيات الصوتية. يأتي من ثم حكم الجمهور على أدائه، هذا الأخير حتى إن لم تعجبه حلاوة الصوت، فلا بد أنه سيُقدر أن هذا المنشد يغني جيدا من دون نشاز […] تخضع الجوقة باستمرار للتدريب واللقاءات التطويرية في الصولفيج والغناء الشرقي وقراءة النوتة‘‘.
’’الفخر بالهوية والثقافة العربية‘‘
نستلهم من إيماننا برسالتنا التي تهدف إلى نشر القيمة العالية والمميزة للموسيقى العربية وتقديم ثقافتنا العربية في الغرب بشكل أفضل. تغلب الصورة القاتمة عن المجتمعات العربية في المانشيتات العريضة في كندا […] الثقافة العربية يعود تاريخها إلى آلاف السنين ولكن للأسف لم تأخذ ما تستحقه من تقدير، في دول الغرب تحديدا. إننا نشعر بمسؤولية تجاه هذا الإرث الحضاري العربي […] محكوم علينا أن ندافع عن الثقافة العربية وأن نحافظ على موسيقانا الكلاسيكية ونقدّمها بافضل حلّة.
نقلا عن وفا الزغل، الرئيس والمدير التنفيذي في الأوركسترا الكندية العربية
يضيف المتحدث أن كل القنوات التي يرسم خطوطها منذ وطأت قدماه أرض بلاد القيقب في العام 2013، تسعى إلى إعادة إحياء الثقافة العربية وتنشئة الجيل الجديد عليها من أبناء المهاجرين العرب في كندا، ’’لكي ننقل إليهم الشعور بالفخر و الاعتزاز بهويتهم وثقافتهم العربية ‘‘. يشير الزغل إلى أن الأوركسترا تضم 15 عازفا وعازفة من الشباب المتحدرين من أصول عربية، تخرّجوا من ’’المعهد الكندي العربي للموسيقى‘‘ الذي تديره أيضا ’’الأوركسترا الكندية العربية‘‘.
إن الشعلة التي حملناها منذ البداية ستظل نارها متقدة طالما هناك من يأتي في نهاية كل عرض ويقول لنا: أحسنتم في جعلنا نشعر بذلك الاعتزاز والفخر بالهوية والأصل العربي […] هذا الكلام يحفزنا على المضي قدما برسالتنا ويعطينا الدافع للاستمرار ومواصلة المشوار.
نقلا عن لميس عودة، المديرة الفنية للأوركسترا الكندية العربية