صدر ’’بيروت الحنان‘‘ باللغة الفرنسية في 120 صفحة عن دار الكلمة للنشر في لبنان بتوقيع الكاتبة والصحافية الكندية اللبنانية جيزيل خيّاطة عيد.
تفضّل الكاتبة الضيفة كلمة الحنان على كلمة الحنين، تقول ’’إن الحنين يعني النوستالجيا وأنا لا أحب هذه التسمية لأنها تجعلني أحزن، أما كلمة حنان ففيها الكثير من الفرح.
النوستالجيا تغّذي الشعور بالندم، ما لا ينطبق عليّ بالمرّة. لا أحب القول مطلقا :ضيعانو أو أن أتأسف على ما كان في قديم الزمان.
نقلا عن جيزيل خيّاطة عيد التي التقيتها بعد توقيع كتابها في مونتريال يوم 20 نيسان/ابريل 2022
’’كلّ ما عشته في طفولتي كان جميلاً، ولعّل لكل وقت من الأوقات التي نعيشها رونقه. في هذا المؤلف الجديد أعيد صياغة ذكرياتي في بيروت، هذه المدينة ’’البوصلة‘‘ بالنسبة لي‘‘.
تسرد الكاتبة 40 مشهدا مكّثفاً، موجزا وقصيراً في أربعة فصول. مؤلفها الأدبي الجديد السادس في مسيرتها هو أشبه بسيرة ذاتية كُتبت بأسلوب ممتع، سلس ومشوّق، تبتعد مؤلفته عن التطويل والاستطراد ’’خوفاً من إدخال الملل‘‘ إلى نفس القارئ. هذا الأخير يلتهم ’’بيروت الحنان‘‘ في جلسة واحدة، ولكنه لا شك يعود لاجترار المفردات والمعاني العميقة والصور الكثيفة التي ينقلها قلم جيزيل عيد بكل الوضوح والجلاء.
لا تتكرر المفردات بل المرادفات التي تعطي جمالية أدبية وتنّم عن تمكين وتمرّس في صوغ الكلمات بلغة موليير وانسيابها بسلاسة وعذوبة، بعيدا كل البعد عن الإطناب والرتابة. وهذا بلا شك أثر الصحافة المكتوبة في حياة الكاتبة الضيفة التي إلى اليوم تكتب في عدة مجلات باللغة الفرنسية في كندا ولبنان. أما اللغة الفرنسية تحديدا، فهي رافقت جيزيل طيلة عمرها مع والدة تعلمها وأب يعمل مع الانتداب الفرنسي ومدرسة للراهبات الفرنسيات، كما عملت في بداية مسيرتها المهنية أيضا في مركز فرنسي في العاصمة اللبنانية. تقرأ، تكتب وتفكّر الكاتبة الضيفة باللغة الفرنسية وتتعثّر كثيرا عندما تتحدث بلغة الضاد، القريبة من روحها.
بيروت La Dolce Vita لا تموت
عرفت جيزيل خياطة عيد في سنوات الطفولة قبل العام 1975 ’’لا دولشي فيتا من صنع بيروت‘‘، بكل الطقوس والعادات الجميلة والتعايش السلمي المنسجم مع كافة الأديان. وهي لم تكن تعلم الكثير عن ’’أي من الأعياد لهؤلاء وأي لأولئك‘‘، كانوا يحتفلون بأعياد المسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس وأعياد الأرمن وأعياد المسلمين بكل الألفة والمودة. ويُهّنأ أهل الحي المختلط في الجميزة وسط بيروت بعضهم البعض ويتزاورون لتذوق الحلويات والمأكولات الخاصة بكل عيد من تلك الأعياد الدينية التي كانت تؤلّف في المجتمع البيروتي آنذاك فسيفساء جميلة غاية في التناغم والانسجام والترابط.
كنت اتمتع بالمآدب واحتفالات الطهي التي كانت ترافق الأعياد[…] أذكر أنني عانيت من التخمة بعد زيارة قمت بها لصديقة تقطن في ما لم يكن بعد يسمى بيروت الغربية، حيث كنت أتردد دائما من دون التفكير بأني آتية مما لم يكن بعد يسمى بيروت الشرقية.
نقلا عن مقتطف من القصة ما قبل الأخيرة في كتاب ’’بيروت الحنان‘‘ بعنوان: ’’ثم انسحبت الأعياد خلسة وأفلت من دون رجعة‘‘.
في القصة الأخيرة ’’الخاتمة‘‘ يندثر كل شيء، يضمحل، يتقهقر في أرض ’’اللبن والعسل‘‘. لا تعود بيروت سويسرا الشرق بفنادقها الفاخرة العريقة مثل الريتز كارلتون وفينيسيا، بعطورها الفواحة وشواطئها الرملية في الأوزاعي. بألوانها الوردية عندما كانت قبل العام 1975 مقصد القاصي والداني بأسواق الفرنج وأسواق النورية وسوق الصاغة وساحة البرج. بيروت التي عزف الموسيقار العالمي غبريال يارد (نافذة جديدة) على الأورغ في إحدى كنائسها ورنّمت الكاتبة في ذلك اليوم إلى جانب أجواق المؤمنين على قرع أجراسها. بيروت التي صدّرت ملكة جمال الكون جورجينا رزق وغيرها وغيرها من المآثر التي تذكرها الكاتبة ’’البيروتية‘‘ بكل فخر واعتزاز. في بيروت أدركت جيزيل كل شيء لأول مرة: أسنانها الأولى، خطواتها الأولى، مناولتها الأولى، وظيفتها الأولى… ’’قبل أن تذهب بعيداً لتختبر مرات أولى أخرى أقسى‘‘، وتقصد القاصة فرارها من الحرب وهجرتها إلى كندا.
’لبنان يسكُنني‘‘ هناك كأن الانسان يعيش على بلكون ذاته
لا أستطيع أن أنفصل عن لبنان، إنه يسكن روحي وكياني، تقول جيزيل خيّاطة عيد التي لا زالت تُدّرس في جامعاته.
أعيش في لبنان بهوية لبنانية خالصة وأعيش في كندا أيضا بانتماء كندي صميم، خصوصا في تعاملي مع أولادي وأحفادي الكنديين.
في لبنان يعيش الإنسان على شرفة ذاته، من هذه الشرفة يتفرّج على الشارع بصخبه وضجيجه، أما في كندا فإننا نعيش أكثر في الداخل مما يجعلنا نتعمق ونكتب ونفكر. في أرض القيقب أكتب للبنان وعن بيروت وأهلها، أما هناك فأطلّق القلم وأتفرّغ للفرجة من على شرفة منزل الألحان والموسيقى والرقص.
نقلا عن الصحافية والكاتبة الكندية اللبنانية جيزيل خيّاطة عيد
في بيروت كانت تستفيق جيزيل الطفلة على مناداة البائعين الجوالين ما أسمته في كتابها ’’مشاهد أوبرالية‘‘ و’’حركة صاخبة تميّز الحي الذي أسكن فيه‘‘: معانا كاز للبيع، قواعي عتيقة للبيع، حديد للبيع، مبيّض مبيّض، منجّد منّجد […] كعك كعك، جرايد مجلّات، معانا توم، بصل، اصابع البوبو يا خيار[…] بصوت ’’رنان ومتكرر كما في إحياء الصلوات والطقوس الدينية‘‘. على وقع هذه الذاكرة المتّقدة الحيّة التي توّصف أدق التفاصيل، يشعر القارىء أنه يجلس على شرفة منزل جيزيل ويتفرّج على الجارة روز ’’را دار الحي‘‘ وكندرجي الحي الذي كان يطلق على نفسه النيويوركي ’’وأم فريد البشعة‘‘ و’’الخادمة إفونيه‘‘ التي لطالما ظنت أنها هي بدل روز ربّة المنزل. تعرّفنا جيزيل عيد أيضا على ’’المعلم رامز‘‘ الذي علّمها قيادة السيارة وارء مقود سيارته ’’التحفة‘‘.
تخبرنا أيضا وأيضا عن المواسم لكل الفصول وعلى مصطلحات كل شهور السنة وتسمياتها في الذاكرة الشعبية البيروتية في الفصل الثاني من كتابها بعنوان: ’’بيروت على مرّ الشهور‘‘، “الفحمات الكبار لعمّك آذار، آب اللهاب، شباط يشبّط ويلّبط وريحة الصيف فيه…‘‘نصعد معها أيضا على روف (سطح) منزلها لنتعرف على العائلة البدوية الغجرية التي تستقر في الخريف والشتاء على سطح العمارة التي تسكن فيها جيزيل مع أهلها. تدخر هذه العائلة القادمة من قرية بعيدة جدا، حفنة من المال في أعمال متواضعة في المدينة، وترسل أولادها الستة بالمجّان إلى المدرسة ذاتها التي تتعلم فيها جيزيل. وقد ظلّ انفصال هؤلاء الأولاد عن جيزيل وأخواتها على باب المدرسة، ليذهبوا في طريق مختلفة، لغزا إلى اليوم يحيّر الكاتبة اللامعة.
بيروت لا تستسلم
ما كان لا يوصف لكنه كان حاضراً للغاية، هو الانطباع بالانتماء إلى مجتمع كبير توّحده العادات والطقوس والهوس النموذجي الذي ينفث بهجة الحياة والذي تكتنفه التأكيدات المخادعة بغد مشرق برّاق.
تعدد جيزيل خياطة عيد كل الأعياد المسيحية الكثيرة، وتدخل في تفاصيل طقوسها وتسمياتها في حين تكتفي بتعداد الأعياد المسلمة التي تعّد على أصابع اليد الواحدة.
لقد تعلّمت جيزيل والتحقت مرارا بالمدرسة الداخلية للراهبات الفرنسيات التابعات للطقس المسيحي اللاتيني. ولكن هذه الكاتبة المشّبعة بالإيمان المسيحي، لا تتوانى عن انتقاد الأخت برناديت معلمة البيانو التي كانت تضربها على رؤوس أصابعها بالمسطرة عندما تخطأ في عزف النوتة من كتاب ’’La Methode Rose‘‘، هذا الألم لا زال راسخا في ذاكرة القاصة إلى اليوم.
في الوقت ذاته تشيد جيزيل بالأخت بول، معلمة الخياطة التي علمت من البداية انعدام الموهبة عند تلميذتها، فطلبت منها أن تقرأ القصص لرفاقها ’’كأنها حفّزتني ونمّت فيّ الخيار الأدبي الذي طبعني في حياتي كلّها‘‘.إن الرابع من شهر آب/أغسطس أحزنني كثيرًا، احبطني وأوقد نار ثورة في أحشائي. أصبت بكدمات عميقة لفترة طويلة. لقد بكيت كثيرًا عندما رأيت صور منزلنا الجميل مدّمر، مدنسًا بأنفاس القاتل. رؤية أشلاء منزل السعادة في الزمن الماضي الجميل، اخترقت قلبي، كانت كما لو أنه اغتصب وانتهكت حرمته.نقلا عن من الفصل الأخير ’’الخاتمة‘‘ في كتاب ’’بيروت الحنان‘‘
في هذا الكتاب أؤدي واجباً تُمليه عليّ الذاكرة
تقول جيزيل خيّاطة عيد إنها تنقل ثقافتها وطقوسها وتقاليدها اللبنانية الى الكنديين بطريقة عيشها و تفكيرها وطباعها وتصرفاتها وتعاطيها مع هذا المجتمع، من دون أي تكلّف أو تصّنع ومن دون أي رتوش تجميلية.إن كتابي مهدى لأولادي وأحفادي، لكي لا ننسى كيف كانت بيروت ست الدنيا، وهو واجب تجاه بيروت تمليه عليّ الذاكرة قبل فوات الآوان وطالما أنني أتذكر.نقلا عن جيزيل خيّاطة عيد
لأنّه مرّ وقت طويل على مغادرتنا لبيروت فإن ذاكرتنا تشبه ذاكرة المسنين الذين أصيبوا بالزهايمر، تُمحي ذاكرتهم تفاصيل الحاضر ويحيون على أبواب الذاكرة القديمة.
إن ’’بيروت الحنان‘‘ هو عربون وفاء وامتنان لبيروت لعطاءاتها الوفيرة للكاتبة، ’’فيها عاشت ما لم يكن بالإمكان أن تعيشه في أي بلد آخر على سطح الكرة الأرضية‘‘.بيروت مدينة حيّة، نابضة، مليئة بالحياة والاشراقات، بيروت كانت تحمل في ذاتها كل ما يجعل منها عاصمة جذابة أخّاذة ومبهرة بجمالها.نقلا عن