قدِم المعلم مختار غانيا من مدينة الصويرة ’’التي تتنفس هواء الفن الكناوي‘‘ ومنهم من يعتبرها مهد هذه الموسيقى، ، إلى كندا وقدم حفلات في عدد من المدن الكندية. وقد شارك في مونتريال مع فرقته في مهرجان ’’ليالي افريقيا الدولي‘‘ (Nuits d’Afrique)، يرعاية القناة المتخصصة بالموسيقى في هيئة الإذاعة الكندية Espace Musique.
في إطار فعالية ’’الأحداث الكبرى‘‘ في مهرجان ’’ليالي افريقيا الدولي‘‘ في نسخته السادسة والثلاثين مؤخرا في مونتريال، قدّمت قناة الموسيقى (Espace Musique) في هيئة الإذاعة الكندية حفل MOKTAR GANIA & GNAWA SOUL، الذي قُدم على مسرح ’’فيرمونت‘‘ (Théâtre Fairmount) في وسط مونتريال.
’’كناوة سول‘‘ هو أيضا عنوان الالبوم الأخير للمعلم مختار غانيا وفرقته حيث يُطلق وريث عائلة كناوية بامتياز، الموسيقى التراثية من حدودها الجغرافية الضيقة إلى العالمية. يخرج المعلم مختار غانيا موسيقى الكناوة من مدرستها التقليدية الفلكلورية إلى المدرسة المعاصرة. يَكسر من تنشّق الهواء الكناويّ طيلة عمره، المونوتونية والاطناب التي قد تتسم بها الكناوة التقليدية القديمة، بابتكار لحن معاصر تستسيغه كل الأذواق في الارض قاطبة. هو الألبوم الأول في رصيده من إنتاج ’’يونيفرسال ميوزيك‘‘ (Universal Music) بفرعها الشرق أوسطي. يتضمن الألبوم 12 أغنية، 10 منها من الريبرتوار الكناوي القديم، وقد أعيد توزيعها بحلة عصرية لتدخل فيها الإيقاعات الإلكترونية. أغنيتان فقط في الألبوم جديدتان، كتب ألحانهما المعلم غانيا. في التوزيع الموسيقي يتعاون هذا الأخير مع عازف الإيقاع في الفرقة الفنان ياسين بن علي وعازف الغيتار أنور بن ابراهيم. الصبغة العالمية لموسيقى الغناوة في الألبوم يضفيها أيضا تعاون كل من عازف البيانو وموسيقى الجاز المعروف راندي ويستون، الذي يعدّ واحداً من أعمدة موسيقى الجاز التي مزجت ما بين الموسيقى الأفريقية والجاز الأمريكي. وعازف الغيتار الأميركي الإسباني الشهير كارلوس سانتانا، الذي يُشتهر بالجاز والموسيقى اللاتينية، السالسا والبلوز والروك.
إنها ’’كناوة بوب‘‘ مع قليل من الجاز، تجمع بين التراث الافريقي والتراث المغربي الشرقي والموسيقى العالمية الأخرى. تستهوي المتلقي الغربي وتدخله إلى السحر الكناوي الذي يجمع تحت ظلاله عدة ثقافات افريقية سوداء ممتدة في شمال افريقيا.
نقلا عن أنور بن ابراهيم، عازف غيتار من الرباط
خوض في طقوس الكناوة أو استحضار زمن مجيد غابر
إن ألبوم Gnawa Soul يجسد الروح الحرة للصويرة، هذه المدينة الساحلية الجميلة المطلة على الأطلسي، حيث ولد المعلم مختار غانيا، وريث الموسيقى الكناوية. هذا الأخير يصقل ويطوّع الموسيقى التراثية المتجذرة في عمق القارة السوداء لترتقي إلى العالمية و يتلقفها المتلقي الغربي والأجيال المعاصرة. يضطلع الألبوم بحماسة صوفية مُسكرة، ويمنح الأولوية للعزف المنفرد والارتجال. فتكسر الحواجز بين سكان الارض قاطبة وتتحرر الأرواح.
نقلا عن في البيان الذي تعرّف به قناة Espace Musique في هيئة الإذاعة الكندية عن الالبوم الجديد للمعلم مختار غانيا
’’هي موسيقى الروح‘‘ في درجة أولى يقول المعلم مختار غانيا الذي التقيته في مونتريال مع الفنانًين أنور بن إبراهيم وياسين بن علي. لقاء طال وشكل شهادة حياة لكل من الضيوف الثلاثة في مشوارهم مع موسيقى الكناوة ووقوعهم في سحرها وعشقها من اللحظة الأولى.
وإذا كان بن علي وبن ابراهيم انضويا مؤخرا في محراب هذه الموسيقى السامية ’’التي تشفي الأرواح‘‘، فإن مختار غانيا ورثها أبا عن جد، علما أن جذور هذا الأخير نيجيرية.
حبا مختار غانيا خطوة خطوة في طريق موسيقى الأجداد الإفريقيين الذين ينحدرون من سلالة العبيد الذين استُجلبوا في العصر الذهبي للامبراطورية المغربية في نهاية القرن السادس عشر، من أفريقيا السوداء الغربية، التي كانت تسمى آنذاك السودان الغربي أو إمبراطورية غانا (دولة مالي الحالية، على وجه الخصوص). من هنا محافظة الأغنية الكناوية على اللغة البمبرية (البمبارا) التي يتحدث بها أهل مالي، كما يوضح لي المعلم مختار غانيا. هذا الأخير يؤكد أنه يقدم في أغنيته مزيجا من البمبارا والعربية، علماً أنني لم أفهم ولا حتى كلمة واحدة تلك الليلة الكناوية في ’’دار المغرب‘‘ في مونتريال، مستسلمة كغيري من الحضور للنشوة التي يحدثها في النفوس صخب الموسيقى الكناوية البهيجة والصوت المليء بالنقاوة والقدسية لسيد الحفل أو ’’المعلم‘‘ كما يُطلق على كل شخص حقق التجاوز والتميّز والتفرد في اللون الكناوي.
الطريق شاقة وطويلة لولوج ’’مقدسات‘‘ الكناوة والتربع على عرشها ’’معلماً واستاذاً‘‘ يتطلب جدارة واستحقاقاً
تدرّج مختار غانيا في ألوان موسيقى الكناوة الرمزية السبعة وهي بمثابة المقامات في الموسيقى الشرقية. كل لون عنده ريبرتوار خاص، وكان المتحدث يمضي عاما كاملا في التمرس على لون واحد فقط، قبل أن يتمكن منه ويجتاز إلى التدرب على لون آخر. كذلك مارس غانيا العزف على الآلات، الوترية في شكل خاص، المستخدمة في الكناوة، ومكث طويلا راقصا في فرقة ابيه وأشقائه الأكبر سنا. ظلّ مختار غانيا ذلك ’’الكويو‘‘، أي الراقص، الذي يضرب القراقب (التي تعطي أصواتا تشبه صوت رقص الكلاكيت في الموسيقى الغربية) لسنوات طويلة قبل أن يصل أخيرا إلى درجة ’’المعلم‘‘ ويقود الفرقة بالغناء والعزف على آلة الكمبري (Guembri) الوترية القديمة التي تسمى أيضا الهجهوج وتصنع من الحطب. يُقدر المتحدث بأن الفنان يمضي من 18 إلى 20 عاما في المدرسة الكناوية قبل أن يصل إلى درجة ’’المعلم‘‘.
ربما هذه هي المرة الأولى في كندا التي عزفت فيها على آلة الكمبري في حفلاتنا، ففي المرتين السابقتين اللتين أتيت بهما إلى كندا كنت برفقة شقيقي الأكبر مني سنا المعلم محمود، وكان هو من ورث اولا العزف على الكمبري بعد وفاة والدي[…] إن الكناوة ليست فنا ساميا يشفي الأرواح فحسب، بل هي أيضا مدرسة في الحياة، تعلمنا حسن السلوك وواجب الاحترام بين الأجيال. كنت أراقب والدي وإخوتي وأخواتي وأحفظ عن ظهر قلب كل تفصيل صغير لكي أكون مستحقا لحمل هذه الثقافة ونقلها لأولادي من بعدي.
نقلا عن المعلم مختار غانيا، فنان متخصص في موسيقى الكناوة
الصويرة، المدينة العتيقة التي أمست قُبلة عشاق الكناوة
ينتمي المتحدث إلى الجيل الثالث في هذه العائلة التي استوطنت في المغرب وتحديدا في مدينة الصويرة الساحلية المطلّة على المحيط الأطلسي. وقد امتهن جميع أفراد اسرة مختار غانيا من دون استثناء موسيقى الكناوة. ’’لم نعرف مهنة أخرى في حياتنا من أيام أجداد آل مختار وآبائهم‘‘، يقول مختار غانيا. وتشارك هذه العائلة في مهرجان موسيقى الكناوة الذي يقام في مدينة الصويرة في شهر حزيران / يونيو من كل عام. وتحتضن ’’الزاوية‘‘ في غرب المدينة حيث يوجد ضريح الصوفي ’’سيدي بلال الحبشي‘‘ المرجع الأعلى، والأب الروحي لجميع الكناويين، فعاليات المهرجان الذي يرتدي طابعا روحانيا ويتم إيلاء اهتمام خاص للأنشطة الصوفية والدينية، من خلال حلقات الذكر والصلوات. في هذا المهرجان تتكرر حالات السكر والنشوة التي يعيشها أهل موسيقى الكناوة وجمهورهم على حد سواء. يقول المعلم مختار غانيا أنه يستمر من دون انقطاع في العزف والغناء على مدى ثلاثة ايام وليالي. وينفي المتحدث أن يقع فنان الكناوة المحترف نتيجة لذلك، في الرتابة والروتين وتكرار الجملة الموسيقية في شكل يحمل الملل والكلل إلى نفس المتلقي.
في تقاليد موسيقى الكناوة، تؤدي النساء إجمالاً دور التنظيم والاستضافة، فيما يحتكر الرجال الغناء والرقص. من هنا فإن ’’زايدة، شقيقة مختار، هي التي تتقلّد عادة مهام تنظيم وإعداد كل الفقرات في الليلة الكناوية‘‘.
تُعّد ليلة ’’الدردبة المباركة‘‘ تقليدا قديما يشارك فيها العديد من المريدين بغاية الشفاء والعلاج الروحي والنفسي. ويشترط أن تنظم ’’الليلة الكناوية‘‘ في مكان مقدّس وتستمر على مدى ثلاثة أيام. حيث تتحول اللحظات الموسيقية إلى فترات للعلاج النفسي الذي يطلبه من أَمَّ هذا المكان متشوّقا للحرية وسحر الموسيقى المفعم بروح الأولياء الصالحين[…] يجد المريد الكناوي في كنف ’’الزاوية‘‘ وفي وسط الضجيج الموسيقي، هدوءاً وسلاما وصفاءً يساعد الذات الإنسانية على الارتقاء إلى مرتبة أكثر سموا.
نقلا عن المعلم مختار غانيا، فنان متخصص في موسيقى الكناوة
وشدّد المتحدث على أن السر يكمن في أن موسيقى الكناوة ’’ليست مجرد موسيقى عادية، بل هي موسيقى ذات ايقاعات قوية محملة بثقل الأساطير والمعتقدات الموغلة في القدم، ومشحونة بالإرث الحضاري الأفريقي والبربري‘‘.
عالم ملؤه التسامح بين الأعراق
مشهد في منتهى البهاء على مسرح ’’دار المغرب للثقافة‘‘ في وسط مدينة مونتريال، تجلى تلك الليلة مع المعلم مختار غانيا وفرقته وضيوفه من جهة والحضور الذي دخل في حالة السكر من جهة أخرى وبدا ثملاً بكل الطقوس التي تحتفي بها موسيقى الكناوة. الألوان السبعة لم تكن في التخت الكناوي فحسب، بل أيضا ارتسمت في فضاء المكان ألوان قوس قزح حاملة الحضور إلى السماء السابعة بكل البهجة والصخب وشدة التفاعل التي عجّت فيها الدار الثقافية الجامعة لشتى الفنون والفعاليات والأنشطة على مدار العام.
مشهد مصغّر عما يمكن أن يحدث في ’’الزاوية الصويرية‘‘ أمكن معاينته، أكان عبر الصوت الصارخ القوي للمعلم غانيا الذي يتغلغل إلى الأعماق أو عبر الصخب الموسيقي الذي يزلزل المكان من دون السقوط في رتابة النغم والإيقاع. يضاف إلى ذلك جو الحماسة الذي اشاعه الـ ’’كويو‘‘ الراقص في فرقة غانيا الشاب حكيم اينر. لم تفارق الابتسامة ليس وجهه فحسب وإنما كل ذرة فيه كانت تحمل البهجة والسرور إلى المتلقي. سريع الحركة، خفيف الظل، يختزل الخطوات فتظن أنه جن وليس أنساً. إنه العصب والدينامو والمحرك في كل فرق موسيقى الغناوة، وعليه يترتب تأمين التواصل والتفاعل بين الجمهور والفريق الكناوي. كان حضور حكيم أينر بهياً بألوان لباسه المزركشة الزاهية، وظهر متمكنا من إيقاعات الصنج التي تصدرها القراقب في يديه، في حركات يستحيل على الناظر حصرها، فهذا الـ’’كويو‘‘ كان كالـ’’يويو‘‘ في سرعة حركته.
امتزج صوت المعلم مختار غانيا الصادح بالحنين إلى الأرض والتواق إلى الاتحاد بالأزل السرمدي، بالأنغام القوية للآلات الموسيقية الكناوية، ليرتقي الحضور إلى عالم روحاني صرف، وملأت فضاء المكان رهبة ما فتأت تخاطب جمهورا امتلك المكان فصار جزءا من الصورة الأشمل.
تفاعل جميع الحضور تلك الليلة متحدا اتحادا تاما في عالم روحاني تشكله هذه الموسيقى الكناوية الزاخرة بتاريخ إنساني مشترك حافل. حتى الأطفال تقدموا إلى المسرح يحاولون تقليد حركات الكويو السريعة فرحين مبهورين بما يشاهدون ويسمعون. لم يبق أحد غير مبالي وكأن كل ما في المشهد الكناوي يستدعي الغوص في ثنايا الذاكرة وتأجيج أحاسيس ملؤها الفرح والانصهار في أناشيد روحانية ذات جذور افريقية تذكر بالتنوع العرقي والثقافي للمغرب الافريقي.
سرور وحبور وألوان بهيجة أسرت الجمهور الذي أتى للاستمتاع تلك الليلة بالفن الكناوي الأصيل على يد المعلم مختار غانية.
أول مرة شاركت فيها في الليلة الكناوية كانت في منزل زايدة، شقيقة المعلم مختار، وصلت بعد منتصف الليل لأدخل في حالة سكر مطبق، اجتاحني شعور قوي هزّ كياني، وكنت أحاول أن أتماسك لكي لا تنهمر دموعي، إلا أنني فقدت السيطرة وأجهشت بالبكاء[…] إنني لم أفهم أي شيء مما حصل معي ليلتها ولكنني من يومها رحلت عن الصحراء وأقمت في الصويرة وانضممت إلى فرقة المعلم مختار غانيا.
نقلا عن ياسين بن علي، عازف الإيقاع في فرقة المعلم مختار غانيا
يشرح المعلم غانيا أن ’’الليلة الكناوية‘‘ تداوي كل الأسقام وكل نفس تتلقى ذبذبة موسيقية بعينها، تساعد في شفاء روحها من آلامها. ’’يدخل الأشخاص في حالة سكر ويبدأون القيام بأفعال لا يفهمها الآخرون ممن لم تسيطر عليهم بعد حالة السكر. يمشون على النار مثلا أو يقومون بأعمال خارقة أخرى، هذا لأن هؤلاء يعيشون حالة تحرر كلي من أجسادهم ويغوصون في عوالم وفضاءات رحبة‘‘. يتابع غانيا ’’لا يشكل ياسين استثناء بين عشرات الأشخاص يومها الذين كانت لديهم مشاعر مماثلة وشعروا بقوة تجتاحهم‘‘.
غالبا لست أنا الذي يلعب على آلة القنبري، أشعر أن هناك قوة أعظم مني تسيطر علي وتُملي علي النوتة واللحن.
نقلا عن المعلم مختار غانيا، فنان مغربي من مدينة الصويرة
الجمهور الكندي منفتح ويتفاعل إيجابا مع كل ما هو جديد
قبل مونتريال، قدم المعلم غانيا مع فرقته حفلة في مدينة لندن في مقاطعة أونتاريو وكان تفاعل الحضور ’’مذهلا‘‘، يقول ياسين بن علي الذي يأتي لأول مرة إلى كندا. ويلّخص المتحدث ميزة عند المتلقي الكندي بالمقارنة مع الجمهور الأوروبي، يقول: ’’إن في كندا جمهور يهتم بالفن للفن ولا يهمه أن يكون الفنان يتمتع بشهرة عالمية لكي يأتي لحضور حفله. هذا الجمهور شغوف بالتعرف على كل جديد ومنفتح على كل الثقافات والفنون، حضوره الإيجابي وتفاعله المذهل يُحفزنا على العودة ثانية وتحقيق المزيد من الروابط مع هذا المتلقي الذي يحسن استساغة كل الثقافات والفنون‘‘.
(أعدّت التقرير كوليت ضرغام منصف)