التقيت في مونتريال الصحافي الدكتور في الأدب الفرنسي أحمد العيسيوي والمتخصص في العمل الاجتماعي الشغوف بالسياسة مجيد نفخة. لكل منهما رأيه المختلف في الدستور الجديد في تونس الذي تم التصديق عليه الأسبوع الماضي بعد استفتاء جرى في 25 تموز / يوليو الماضي. ولكن يتفق المتحدثان من أصل تونسي على وجوب الخروج بالبلاد من النفق المسدود الذي تعاني منه منذ عقد كامل. وإذا كان العيسيوي آمن بثورة الياسمين وكان شاهدا عليها فإن نفخة الذي يتم نصف قرن في كندا هذا الأسبوع لا يعترف أصلا بهذه الثورة ويرفض التسمية.
’’سنوات ما قبل ثورة الياسمين عاثت خرابا في البلاد وما بعدها شرّع البلاد على الفساد‘‘
يتفق أحمد العيسيوي ومجيد نفخة على أن تونس مرّت في السنوات العشر الماضية بمرحلة عصيبة، سادت خلالها ’’المحسوبية والرشوات والتكتلات والفساد، كما نخر السوس البلاد من الداخل. وكان حزب النهضة ذو المرجعية الإسلامية الحاكم الخفي وراء الستار معززا وجوده في كل دواليب السلطة‘‘.
أسهب المتحدثان في الحديث عن العشرية ’’المظلمة‘‘ كما وصفاها وعرّجا على مسيرة كل الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم في تونس منذ سقوط الرئيس زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني / يناير 2011.
اتحد حزب النهضة مع أول رئيس تونسي أنجبته الثورة المنصف المرزوقي فلم يمسه طيلة حكمه قيد أنملة. وهكذا كان يتحالف هذا الحزب مع كل رئيس جديد ويضحي بكل رئيس تهتز شعبيته فلا يفوز هذا الأخير بولاية ثانية. كانت للحزب قاعدة شعبية في البداية لأن الشعب التونسي يؤمن بمناصرة الضعيف ولأن حزب النهضة نجح في تقديم نفسه في ثوب الضحية. ناصر التونسيون في البداية رئيسه راشد الغنوشي العائد من المنفى بعد 21 عاما، ولكن في النهاية أدرك الجميع أن هذا الحزب لم يفعل شيئا من الانجازات سوى أنه كان يهادن مع السلطة ويتغلغل في كل دواليبها.
نقلا عن أحمد العيسيوي، إعلامي ومؤسس مهرجان ’’ليالي قرطاج في مونتريال‘‘
في قراءته للمرحلة الحالية التي يجتازها بلده الأم، يقول المتحدث: ’’إن هذه المرحلة لا يمكن اقتطاعها من مسارها التاريخي، الأمور متسلسلة منذ 10 سنوات ولا تكاد تونس ترفع رأسها من أزمة حتى تأتيها أزمة أخرى، يعاني الشعب من الغلاء والفقر، وزادت جائحة كوفيد-19 الطين بلّة، إضافة إلى الأزمات السياسية المتسلسلة. كل ما أسلف انبثق عنه الاستفتاء على الدستور‘‘.’
’’عصر الأنبياء ولى وكان لا بد من إحداث تغيير ما بعد عقد مظلم‘‘
يختلف المتحدثان في الرأي في ما يتعلّق بأداء الرئيس التونسي الحالي قيس سعيّد، وإذا كان أحمد العيسيوي يبرر الأفعال لهذا الرئيس، فإن مجيد نفخة يتهمه بخرق الدستور، وهذا هو المأخذ الأهم للمتحدث على رئيس بلده الأم. يعود أصل الحكاية، يقول نفخة ’’إلى تاريخ 25 تموز / يوليو 2021 عندما جمّد الرئيس التونسي البرلمان لأكثر من شهر واحد، مخترقا الدستور، وحلّه بالكامل فيما بعد في 30 آذار / مارس 2022، من دون تطبيق أيضا وأيضا أحكام الدستور‘‘.
اعتراضي علىالرئيس سعيّد هو لأنه أخذ قرارات من غير احترام دستور البلاد. إن حلّ البرلمان غير مقبول قانونيا وهو لا يملك الصلاحية لذلك. عدا عن ذلك فهذا الرئيس لا يسمع إلا نفسه. لقد عرض عليه غالبية من البرلمانيين، قبل أشهر من قراره الأحادي بحلّ مجلس نواب الشعب، أن يحل البرلمان، ولكنه لم يوافق حينها. علما أن نص دستور 2014 يجيز هذا الأمر في حال تقدمت بطلبه غالبية نيابية. إنني أعتبر الإجراءات التي قام بها سعيّد منذ تجميده لعمل البرلمانيين “انقلاباً” على شرعية البرلمان المنتخب وعلى المسار الديمقراطي في البلاد.
نقلا عن مجيد نفخة، المتخصص في العمل الاجتماعي في إحدى هيئات الصحة العامة في مونتريال
ووفقا للمتحدث، فإن ’’حل سعيّد للبرلمان أتى بعدما وصل إلى مسامعه أن رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي يعقد جلسات خارج أسوار البرلمان ويرسل نوابه إلى برلمانات العالم ويحاول تقويض نظام الحكم‘‘.
من جانبه، يرى أحمد العيسيوي أنه ’’لا توجد عصا سحرية لتصويب المسار وأن الرئيس التونسي لم يقم بأكثر مما طالبه به الشعب الذي استجار به ليضع حدا للمهزلة القائمة في البرلمان حيث يتضارب النواب ويتقاتلون فيما بينهم على الملأ‘‘.
’’أما بالنسبة للاستفتاء على الدستور، يتابع العيسيوي، فإن هذه الخطوة أتت بعد عشر سنوات كانت تسير فيها البلاد إلى المجهول، وبعدما كان يظن التونسيون أن عندهم أقوى دستور في العالم، وهو دستور ما بعد ثورة الياسمين (2014)، تيقنوا أن هذا الدستور لم يكن مقرونا بـ الأفعال والممارسات الصحيحة‘‘.
إن الاستفتاء وحل المجلس كانا مطلبا شعبيا وهذا واضح وراسخ ولا غبار عليه. استجار الشعب على مدى أكثر من سنتين برئيس البلاد وطلب منه التدخل لحل الأزمات السياسية التي تعصف بتونس ولكن حينها لم يكن يملك الرئيس الصلاحيات. نعم كان هناك دستور، ولكنه على مدى السنوات العشر الماضية لم يصلح كثيرا أحوال البلاد.
نقلا عن أحمد العيسيوي، واكب ثورة الياسمين عبر الكتابة في الصحافة الفرنسية الصادرة في تونس
وفي رده على ما تعتبره المعارضة تقويضا لمسار الديمقراطية في بلد ثورة الياسمين حيث اعتبرت تونس المثال الناجح في المنطقة في ما أطلق عليه بـ ’’الربيع العربي‘‘، يقول العيسيوي: ’’في رأيي الشخصي الذي لا ألزم به إلا نفسي، إنه في كل مسار تصل فيه إلى منتهى الزقاق، فإنك تُجبر على تغييره . لماذا يحق للرئيس الإيطالي حلّ البرلمان قبل فترة ولا يحق للرئيس التونسي بدوره حلّ مجلس نواب الشعب؟ لماذا تشيطنون رئيسا وتبرّؤون آخر؟ إنها سياسة الكيل بمكيالين المرفوضة تماما‘‘.
الدستور التونسي الجديد ما بين مطرقة الرئيس وسندان المعارضة
صادق الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 18 آب / أغسطس الماضي على دستور البلاد الجديد المثير للجدل الذي يتضمن صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية. وقد أحدث هذا الدستور انقساما داخل المجتمع التونسي، فهناك من يؤيده مع الفصول الذي تحتويه في حين يرى البعض الآخر أنه سيؤدي إلى تغيير الوجه السياسي في البلاد، منتقدين الصلاحيات المتزايدة للرئيس على حساب البرلمان.
إن قيس سعيّد قبل انتخابه كان المجهول الأكبر، هو المرشح المستقل الذي خرج من العدم، فلا قوة سياسية أو حزبية وراءه ولا حتى ميزانيات وأموال تدعمه، كان وجها جديدا لا يحتكم الشعب على سجله الماضي. عشية الانتخابات أظهر حنكة وذكاء في التهرب من الإجابات الصريحة والواضحة خصوصا لجهة دعمه لحزب النهضة.
نقلا عن مجيد نفخة، المتخصص في العمل الاجتماعي في إحدى هيئات الصحة العامة في مونتريال
ينتقد ابن مدينة صفاقس ’’سلطة الفرد الواحد‘‘ في دستور هيمن في كتابة بنوده قيس سعيّد الأستاذ الجامعي المتقاعد في القانون الدستوري. يتساءل المتحدث أيضا ’’لماذا يعزل الرئيس نحو 50 قاضيا من مناصبهم عشية الاستفتاء الدستوري؟ حتى المحكمة القضائية الإدارية التي قالت إنه ليس منوط برئيس الدولة أن يجرد قضاة من مناصبهم، رد عليها وقال: إن المحاكم الإدارية ليس لها سلطة على رئيس الدولة، وقد رُفضت بالفعل كل الطعون التي تقدمت بها الأحزاب والأصوات المعارضة على الاستفتاء الأخير‘‘.
يجيب أحمد العيسيوي ابن مدينة المرسى بأن ’’هؤلاء القضاة عادوا إلى استئناف عملهم بعد تبرئتهم، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن القضاء ليس بيد الرئيس سعيّد أو هذا ما يبدو لي. أو ليست أيضا سياسة الكيل بمكيالين عندما لا يحق لأحد ما يحق لآخر؟ لماذا يحق لنور الدين البحيري ’’النهضوي‘‘ عندما كان وزيرا سابقا للعدل في الحكومة القيام بإقصاء عدد من أفضل القضاة واحالتهم على المعاش الإجباري، من دون حتى أن يستشير أحدا؟‘‘
إنه من أسهل ما يكون أن تهيّج الرأي العام مع أو ضد قضية معينة. يكفي أن ترى كفة الميزان إلى أين تميل لتضع ثقلك في الكفة الرابحة. عندما يحظى زعيم معين بتأييد شعبي يسهل عليه تحريك الرأي العام يمنة أو يسرة كما يحلو له.
نقلا عن أحمد العيسيوي، واكب ثورة الياسمين عبر الكتابة في الصحافة الفرنسية الصادرة في تونس
تأييد على مضض
يقف أحمد العيسيوي في منطقة رمادية في آراءه أكان في ما يتعلّق بالاستفتاء على الدستور أو في رأيه بالرئيس سعيّد أو حتى في مشاركته في الانتخابات البرلمانية المقبلة في بلده الأم تونس.
في رأيه أن ’’الاستفتاء أتى في ظرف عصيب والتصويت عليه بالإيجاب هو أمر معقول‘‘. ولكن يستعرض المتحدث بعض الملاحظات غير المشجعة، يقول: ’’إن نسبة مشاركة لا تتعدى الـ 28% من إجمالي الناخبين في الاستفتاء ليست كارثية وليست مطمئنة في آن معا. علما أن نسبة التأييد للدستور الجديد تخطت الـ 94%. يضاف إلى ذلك أنه حصلت بعض الإخلالات التي تستدعي طرح علامات استفهام. إذ أصدرت لجنة الانتخابات في الساعات الأولى لانتهاء التصويت أرقاما خاطئة وعادت فيما بعد إلى الاعتذار والتصويب بعدما علت الأصوات المعارضة في المجتمع المدني. ما يقلقني ايضا، أردف العيسيوي: أن تكون بعض النقاط في الدستور الجديد موضع خلاف كبير وجدل، خصوصا عندما تبرأ من الدستور فيما بعد بعض القضاة ممن شاركوا في كتابته مع الرئيس سعيّد. وأشار هؤلاء إلى أنه حصل تغيير في المسودة التي كتبت بين ليلة وضحاها، الدستور الذي وضع ليس ذاته الذي عرض على العموم‘‘. هذا ورفض المتحدث ما يقوله البعض ’’بأن تونس ذاهبة إلى ديكتاتورية حيث الرئيس يُملي كل شيء‘‘.
لا أعتقد أنه يمكن وصف الرئيس سعيّد بالدكتاتور. من صفات الدكتاتور أنه يعطيك قلما ويأخذ منك ألف كرّاس، وعندما يضرب فهو يضرب بيد من حديد. كل هذه الصفات لا أجدها في الرئيس سعيّد. قد يتعلق الأمر بسوء تقدير منه أو ارتباك أو أن كلامه أكثر من فعله، ولكنه ليس دكتاتورا. الدستور الجديد يثير القلق في نفسي بشكل كبير، ليس في ما يتعلق بشخص الرئيس الحالي الذي برهن عن نزاهة معقولة، أقولها بين قاب قوسين، ولكن سعيّد لا يمكن له أن يستحوذ على كرسي الرئاسة أبد الدهر. سيأتي غيره وقد يسيء استخدام السلطات المتاحة له، مغرقا البلاد من جديد في الاستبداد والطغيان ربما.
نقلا عن أحمد العيسيوي، واكب ثورة الياسمين عبر الكتابة في الصحافة الفرنسية الصادرة في تونس
’’مطلوب من المعارضة توحيد صفوفها‘‘
يتخوّف مجيد نفخة من احتكار الرئيس قيس سعيّد بموجب الدستور الجديد لكامل السلطتين التنفيذية والتشريعية في البلاد. ويؤكد معارضته الشديدة لأي وجود للإسلام السياسي في الحكم ووفقا له ’’فإن 90% من الشعب التونسي يرفض هذا الأمر‘‘.
إن ما يثير قلقي أن التيارات والجماعات التي تسمي نفسها مدنية، ليست على توافق وانسجام فيما بينها مما يقصم ظهر المعارضة ويضعفها. المطلوب اليوم تكاتف هذه المعارضة لتشكيل صف واحد منسجم ومتناغم ومتعاون مع بعضه البعض. إنني أتطلع بأمل إلى الانتخابات البرلمانية في شهر كانون الأول / ديسمبر المقبل. عسى أن تكون ديمقراطية وتخرج تونس من السيمفونية التي يعزفها الرئيس منذ وصوله إلى الحكم وهي ’’إن الشعب يريد‘‘.
نقلا عن مجيد نفخة، خمسون عاما في كندا
من جهته، يعتبر أحمد العيسيوي أنه يجب الإقرار بأن هناك مشكلة قائمة و مستفحلة في تونس، ’’كل ما هو خايب موجود فيها وتكاثر ظهوره في العقد الأخير‘‘. بلد ’’مسيّبة‘‘، قال المتحدث بالعامية التونسية، ولا بد من ترك الوقت ليعطي حكمه.
قد يكون الرئيس سعيّد هو الحل، كما قد يكون سببا من اسباب تفاقم الأزمة أو استمرارها على الأقل. هناك ريبة وشك في كلتي الحالتين، فلما لا يأخذ فرصته كما أخذها الآخرون، خصوصا أنه يحاول تقديم شيئا مختلفا؟ أنا شخصيا أجد أن في الدستور الجديد ما يؤكل، ما يشفي الغليل ويفي بالغرض.
نقلا عن أحمد العيسيوي، مستقر في مدينة مونتريال منذ العام 2012
عن مشاركته في الانتخابات التشريعية المقبلة يقول المتحدث بأنه لم يتخذ قراره بعد. يرى العيسيوي بأن التصويت على الدستور شيء والتصويت من أجل انتخاب مجلس نواب الشعب أمر آخر مختلف تماما. يردف بالقول: ’’ ثمة حذر وتفكير عميق، لي رأيي وتفكيري وقناعاتي. هناك أمور أوافق عليها وأخرى تسترعي حذري ولم أحسم فيها أمري بعد. كل ما أستطيع قوله إن الانتخابات البرلمانية فيها نظر وبعد نظر‘‘.
أما الأمر بالنسبة لمجيد نفخة فهو محسوم: لن يشارك في التصويت في الانتخابات المقبلة لأن برأيه ’’ البرلمان من دون سلطة كما كرسه الدستور الجديد ليس برلمانا‘‘.
(أعدّت التقرير كوليت ضرغام منصف)