في كفّةٍ النجاح وفي الكفّة الأخرى الفشل، لا شيء مضمون في فن الفكاهة وقد تصل اليوم إلى السماء السابعة وقد تقع غدا على الحضيض. معادلة صعبة جدا تجعل الفنان الشاب وسيم المنذر يعيش اضطرابا وقلقا ويعيد التفكير في كل لحظة في الفن الذي مشى فيه خطوة أولى في مسيرة الألف ميل.
حصّل وسيم المنذر دبلوما في علم وظائف الأعضاء (Physiology) من جامعة ماك غيل في مدينة مونتريال. ولكن العمل في مختبر علمي لم يعد يستهويه بعدما اكتشف أنه نُذر منذ ماضٍ بعيد لرسالة أخرى ومصير آخر في هذه الحياة.
كنت دائما أتمنى أن أقوم ولو لمرة واحدة في حياتي قبل أن توافيني المنية بالستاند آب كوميدي، وبعدها لا يعود يهمني شيء في الحياة.
نقلا عن وسيم المنذر، فنان الفكاهة
لم يخطط الشاب الذي هاجر مع عائلته إلى مونتريال، عندما كان عمره سنة واحدة في العام 1989 من القرن الماضي، للخوض في معترك فن الفكاهة، وإنما القصة محض صدفة.
’’أتحدث الكورية أكثر مما أتحدث العربية‘‘
كانت دوما الفرصة سانحة أمام وسيم المنذر لتعلم اللغة العربية واللغة الفرنسية، ولكن يبدو أنه يجد الانجليزية أسهل بكثير. ما أن يكون مقررا أن يتحدث بالعامية اللبنانية مع والدته أو الفرنسية مع صديقته، حتى تجده يستسهل الانجليزية وبعد عشرين دقيقة في أقصى حد، يتحول إلى لغة شكسبير وتضيع جهوده وجهود محدثّته سدى.
عليكِ بطرح السؤال على أمي عن اصرارها في إلحاقي مع اخوتي في مدارس انجليزية في كل المراحل الدراسية. كذلك عمّقت الأجواء التي عشنا فيها في غرب مدينة مونتريال هذا الانتماء الأنغلوفوني خصوصا أن غالبية السكان في تلك المنطقة هم كنديون ناطقون بالإنكليزية. في هذا الجو ربيت وتأثرت وضيعت فرصة التمرس باللغة الفرنسية والعامية اللبنانية.
نقلا عن وسيم المنذر، فنان الفكاهة
ولكن هذه اللغة التي يتحدث بها ويكتبها باتقان ستكون السبب في تغيير حياة المتحدث ورسم خطوطها من جديد وتحقيق المسار الذي نُذر له.
سافر وسيم المنذر إلى كوريا الجنوبية عام 2011 لأربع سنوات، علّم خلالها اللغة الانجليزية، مدفوعا بكسب العيش وحب السفر. ولكنه يجد أكثر من ذلك في تلك البلاد البعيدة. فرصة ذهبية في ’’المايكروفون المفتوح‘‘ عام 2013، حيث شارك في تقديم نمر فكاهية بالانجليزية من قبيل الهواية. لتعانق هذه الكتابات روحه ويدرك أن هذه هي الطريق التي يتوق إليها في عقله اللاواعي وبأن هناك إلهاما مكبوتا في ذاته يريد أن يخرج إلى النور. وهكذا بدأ عشقه الجديد يأخذ طابعا جديا أكثر فأكثر يوما بعد يوم.
يقول وسيم المنذر: ’’أُعجب عدد كبير من الحضور في سيول بما قدمته ونجحت نكاتي في اضحاكهم، لأجد نفسي مدمنا على كتابة الفكاهة منخرطا كليا في عالمها وطقوسها، لتصبح شغلي الشاغل والباب الوحيد الذي أطل منه على شرفات الحياة منذ أربع سنوات‘‘.
كتابة الفكاهة تحوّلت إلى إدمان، أكتب وأكتب ولا أملّ محاولا أن أكون أقرب ما يكون من هواجس الناس ومشاغلهم وأن أعبرّ بالنكتة عما يُكّدرهم وينغصّ عيشهم[…] عالمنا اليوم المثقل بالهموم والمشاكل بأمّس الحاجة إلى النكتة والترفيه وتفريج الهموم، وهذه هي رسالتي في فن الستاند آب كوميدي الذي اقدّمه، واحرص على أن يكون هادفا وليس فارغا.
نقلا عن وسيم المنذر، فنان الستاند آب كوميدي
عندما يلج فنان الفكاهةعمقَ جمهوره ويتحدث إليه في ما يشغله ويعنية، فهو يحقق معه أقصى التفاعل والتجاوب، ويستطيع في هذه الحالة فقط أن يسيطر على عقله وقلبه وحواسه، وهذه هي الغاية الفضلى التي يرغب بتحقيقها من يبدأ لتوه مشوار الألف ميل.
يقول المتحدث مازحا ’’ آمل في أن تعطي رأيا جيدا في فني. ليبرد قلب أمي عندما تقرأ هذا التقرير وتؤمن أنني أقدم فنا يحمل رسالة وليس ما أقوم به مجرد هواية و قفشات تضحك الجمهور فحسب، بل ايضا تدعوه إلى السؤال وإعادة التفكير في أمور كثيرة، بينها هذه التعددية في الأعراق والأجناس واختلاف التفكير والعادات مثلا التي نعيشها في مونتريال والتي أتطرق كثيرا إليها في ما أكتبه وأقدمه في عالم الفكاهة‘‘.
’’…كانت أمي بين الحضور وقد خذلتها‘‘
إنه آخر العنقود في العائلة وقد توفي والده منذ أكثر من 25 عاما، لتتولى الأم، دور الأب أيضا في حياة أولادها الثلاثة، الذين اضطلعوا جميعهم بالفنون والآداب. يرى المتحدث ’’بأن الفنون والآداب هي في جينات آل المنذر و حمضهم النووي‘‘. علماً أن الموسيقار الشهير إحسان المنذر الذي وافته المنية مؤخرا في بيروت هو عمّه، شقيق والده.
ليلة 29 تموز / يوليو المنصرم كان من المفترض أن يُقدم العرض الفكاهي لمجموعة المواهب الجديدة، في إطار مهرجان ’’للضحك فقط‘‘ على مسرح Monument National في وسط مونتريال الذي يتسع لأكثر من 800 متفرج. ولكن اضطرت إدارة المهرجان في اللحظة الأخيرة، بسبب حريق شبّ في المكان، إلى نقل العرض إلى صالة Club Soda القريبة ولكن الأقل استيعابا. صحيح أن وسيم المنذر كان محظوظا لأن العرض لم يلغَ وهو أول فرصة حقيقية له في مهرجان مونتريال العريق، ولكن فرحه لم يكتمل لأن أمه لم تستطع أن تكون بين الحضور. علما أنه تربط هذه الأم بأصغر أولادها ’’علاقة قوية جدا وخاصة‘‘.
عندما وصلت أمي إلى باب المسرح تلك الليلة، كانت الصالة قد حققت الاستيعاب الكامل وتم رفض دخولها، لم استطع شيئا لأنني كنت في الكواليس. أدائي تلك الليلة كان رائعا وكنت راضيا عما قدمته وألهبت فعلا قهقهات الحضور وضحكاته. وقد أتت أمي في اليوم التالي إلى مسرح فيه 40 متفرجا فقط، لم يكن أدائي مرضيا وخسرت فرصة أن أثبت لأمي القيمة الكبيرة التي أقدمها في فن الفكاهة. لم تستطع أمي في تلك الليلة الوحيدة التي رأتني فيها على خشبة مسرح محترف أن ترى وتلمس تجاوب وتفاعل جمهور غفير، فخسرتُ رهاناً مع نفسي.
نقلا عن وسيم المنذر، فنان الستاند آب كوميدي
قال المتحدث هذا الكلام بكل الأسى والغصة، و يستدرك بالقول ’’هذا لا يعني أن أمي ليست فخورة بي ولكنها لا تأخذ ما أقوم به على محمل الجد، وهي غير مقتنعة تماما بأنه فن على غرار كل الفنون وليس هواية‘‘.
الفقرة الأولى في حفلات شوجر سامي
كنت شغوفا دائما بمتابعة أعمال فنان الفكاهة الكندي من مدينة مونتريال شوجر سامي (Sugar Sammy). لقد تأثرت به كثيرا، لدرجة أنني كنت أعيد تمثيل كل نمره ونكاته التي حفظتها عن ظهر قلب لرفاقي على مقاعد الدراسة الثانوية.
نقلا عن وسيم المنذر، فنان الفكاهة
يدأب وسيم المنذر منذ العام 2019 على تقديم الفقرة الأولى في حفلات فنان الكوميديا الكندي الذائع الصيت شوجر سامي في كندا والعالم. يقول المتحدث: ’’إن دعوة هذا الفنان العريق لي لأشاركه خشبة المسرح ذاتها شكل لي دفعا قويا وعزز ثقتي بنفسي وإيماني بجودة ما أقدمه وبأنني على الطريق الصحيح‘‘.
ولكن هذا لا يمنع من أن تساور الشكوك من وقت إلى آخر قلب وسيم المنذر حول مستقبل فن الفكاهة كمهنة. خصوصا أنه لا تحكم هذا الفن قواعد نجاح ثابتة ومضمونة، ’’وقد يصفق لك جمهورك اليوم تصفيقا حارا فرحا منتشيا، كما قد لا تحرك عنده ساكنا غداً، ويتمنع عن التجاوب معك لسبب أو لآخر، مما يعيدك إلى نقطة الصفر‘‘.
في كل الأحوال لا يريد وسيم المنذر السقوط في الابتذال واعتماد الفكاهة الصفراء ليصل إلى قلب الجمهور، وهذا يدرج كثيرا في الوسط الفكاهي في كيبيك. إن اقصى ما يمكن أن يفعله في حال وجد فعلا أن الطريق شاقة وتتطلب تنازلات كثيرة، هو أن يعود إلى مقاعد الجامعة للماجستير، حيث أن العلوم تحتل إلى اليوم جزءا من دماغه، أو حتى يعمل في أي مجال آخر، خصوصا أنه جرب العديد من الأعمال ونجح فيها كلها في سنين عمره الـ 34.
…على خطى مايسترو الذاكرة الجميلة إحسان المنذر
لا يأخذ هذا الفنان الشاب فن الفكاهة كأمر مسلّم به، بل يجلد نفسه عن طريق النقد الذاتي بعد كل عرض، ليقوّم ويصحح ويقدم الأفضل محترما نفسه وفنه وجمهوره.
هذا بالفعل ما كان يقوم به عمّه الفنان اللبناني القدير الراحل إحسان المنذر، الذي بكته قبل أيام الأغنية اللبنانية. رحل المنذر بعد صراع مع الموت يوم 3 آب / أغسطس بعد عقود من العمل الفني ساهم خلالها في تشكيل هوية الموسيقى اللبنانية الحديثة والسبّاقة.
التقيت عمي إحسان ثلاث مرات فقط في حياتي، أذكر أنه كان دائما منشغل التفكير، يصفن في عوالم رحبة يستقي منها ألحانه وابتكاراته الموسيقية. في كل مرة أشاهد فيها فيديو لأبي يغني وعمي يعزف على البيانو، تنهمر دموعي من فرط الإحساس الذي يصلني في الغناء والعزف، بُعد روحاني ملؤه الصفاء والتجلي[…] آمل في أن أستطيع في يوم من الأيام أن أصل إلى تلك القدرة في إيصال التعبير المرهف والإحساس الصادق إلى جمهوري كما كان يفعل إحسان المنذر.
نقلا عن وسيم المنذر، فنان الفكاهة
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)