للفانوس سحره الخاص في كل الثقافات.. قد يكون بحجم الكف، ومع ذلك يبدّد ظلاماً شاسعاً، وتستهدي به سفن تائهة في بحر الظلام. يعرفه جميع البشر بكل الأحجام والألوان، لأنه كان صديق الإنسان في البر والبحر، ورفيق دربه في السفن وقطارات السكك والخيام والبيوت والقلاع والفنارات.
وعلى الرغم من أن عصر الكهرباء أضاع هيبة الفانوس، وأفقده مكانته، لكنه لا مازال حاضراً في المناسبات والطقوس وزينة الأعياد، وقصص الشعوب، وأساطير السحر والخيال.
أصل يوناني
يُقال إن كلمة فانوس تعود إلى الأصل اليوناني (Fanos)، ومرادفها العربي “مِشعل”، وهو اسم عربي جميل يطلقه الأهل على أبنائهم، إذ ليس هناك أجمل من أن تكون مُشعل الضوء لأهلك وقومك.
وكما غنّت فيروز “أنا عندي حنين”، رحتُ أسير في حواري القاهرة العتيقة مع زميلي فادي.. تجوّلنا في محيط مسجد الإمام الحسين والأزهر الشريف والسيدة زينب، تحت الربع والغورية والدرب الأحمر، وكلانا يملؤه الحنين بسحر وقصص وتاريخ الفانوس، ورائحة الطفولة السعيدة، وروحانية الشهر الكريم.
كانت السرادقات (أماكن بيع الفوانيس) حولنا ترتفع شاهقة، وتُرصّ فيها مئات الفوانيس المعلّقة في الأسقف من كل حجم ولون.
نمرّ في أزقّة ضيّقة وملتوية، وحارات تتعانق فيها بيوت عتيقة منذ مئات السنين، يصاحبها زحام وضجيج الحياة.. هنا تنبّهت إلى أن استقبال شهر رمضان يبدأ بتعليق الفوانيس قبل استطلاع الهلال نفسه، كأن هلال الأرض يستقبل هلال السماء.
الفوانيس والخلفاء
لابد أن نفرّق هنا بين معرفة الشعوب القديمة للفوانيس والمصابيح، التي كانت تُحمل في اليد، وتُضاء بأنواع مختلفة من الغاز، وتُغطى للحماية من الغبار والهواء والمطر.. وبين ارتباط الفانوس بالطقوس الرمضانية، مثل صناعة الكنافة والحلوى، أو “القرقيعان” في الخليج.
في مصر، تنتهي كل الروايات بأن ارتباط الفانوس بشهر رمضان بدأ مع دخول الفاطميين إلى مصر. أولى هذه الروايات تقول إن المعز لدين الله ـ مؤسس الدولة ـ قدِم من الغرب إلى مصر أوائل شهر رمضان عام 358 هـ، فخرج الرجال والنساء والأطفال لاستقباله في موكب كبير جداً ناحية صحراء الجيزة، وأضاؤوا له الطريق بالفوانيس علامة على الفرح بقدومه، ثم تحوّل الأمر إلى طقس سنوي محبّب.
أما الرواية الثانية فتقول إن الخليفة الفاطمي، كان يخرج ليلاً مع رجال الدين لاستطلاع هلال رمضان، ومن ورائهم النساء والأطفال في انتظار تلك اللحظة المباركة، واعتاد الأطفال أن يخرجوا في الموكب حاملين الفوانيس وهم يرددون بعض الأغاني.
بينما تشير رواية ثالثة، إلى أن الحاكم بأمر الله، أمر بأن تُضاء المساجد بالفوانيس طوال شهر رمضان، توضع في داخل كل منها شمعة، وكذلك أمام البيوت وفي الأزقة، وتغريم كل من يعصي الأمر، لذلك وفّر 500 من “الصنايعية” المهرة للقيام بهذه المهمة.
وتقول رواية رابعة إنه لم يكن يُسمح للنساء بمغادرة بيوتهنّ إلا في شهر رمضان، وكان يسبقهنّ الغلمان حاملين الفوانيس لتنبيه الرجال كي يبتعدوا عن طريقهن.
كلها روايات وتنويعات على القصّة نفسها، إذ ارتبط الفانوس باستقبال رمضان، وإضاءة المساجد للصلاة، وإنارة الشوارع، وفرح الأطفال والنساء بأجواء الشهر الكريم.
وإن كان المقريزي يشير إلى تأثّر المسلمين في ذلك، باحتفالات إخوانهم الأقباط بعيد الميلاد، حيث كان موسماً جليلاً تباع فيه الشموع المزهّرة بالأصباغ المليحة، فلا يبقى أحد من الناس حتى يشتري منهم لأولاده وأهله. وكانوا يسمّونها الفوانيس، ويعلقّونها في الأسواق والحوانيت.
فن وإيمان
من المعروف أن الفنون جميعها نشأت في أحضان المعابد في الحضارات القديمة، فلم يكن ثمّة تعارض بين الفن والإيمان. ويُعتبر الفانوس نوعاً من الفن في صناعته وتلوينه وطقوسه، يعبّر الناس من خلاله عن فرحهم بقدوم الشهر الكريم. فهم لا ينظرون إلى الصوم كعبادة شاقّة مرهقة، بل كعبادة تعزّز الخير والمحبة بين الناس.
لذلك اعتاد الأطفال منذ ألف عام، على الخروج في الأيام الأولى وهم يؤرجحون الفوانيس فرحين، يردّدون أغاني وأهازيج شعبية، أشهرها على الإطلاق:
“وحوي يا وحوي ..إياحه
وكمان وحوي .. إياحه
رُحت يا شعبان.. إياحه
جيت يا رمضان ..
وحوي يا وحوي”
يرجع بعض الباحثين أصل هذه الكلمات الغريبة، إلى الحضارة المصرية القديمة، إذ كانت أغنية يردّدها الصغار ابتهاجاً بظهور القمر. وعبر آلاف السنين، اصطبغت بصبغة إسلامية، وسجّلها الفنان أحمد عبد القادر بصوته العذب، ومازالت تحافظ على مكانتها كأشهر أغنية رمضانية، لا تنافسها إلا أغنية محمد عبد المطلب “رمضان جانا”، وأغنية الثلاثي المرح “أهو جيه يا ولاد”.
وهكذا كنا نسير في أزقّة القاهرة العتيقة، تحيط بنا الفوانيس من كل جانب، بينما تلك الأغاني تصدح هنا وهناك، وتبثّ في النفوس مشاعر الفرح والحنين.
البحث عن الساحر
كان السؤال الذي يشغلني هو الوصول إلى الساحر، أين يعيش الرجل الذي يصنع الفانوس ويبدعه بهذا الجمال والسحر والبساطة؟ أين تقع ورش العمّال المهرة؟
قررنا الذهاب إلى الغورية والدرب الأحمر وحارة الروم، غير بعيد عن مسجد الإمام الحسين، وخلف الأزهر الشريف.. هناك أدركنا أننا وصلنا إلى العاصمة السحرية لتجارة وصناعة الفوانيس.
التقينا شريف سالم في حارة الروم، وتجوّلنا معه في ورشة صغيرة بها ماكينة طبع، فأخبرنا أنهم يعتمدون الآن على “الليزر” لطباعة أشكال و”إكسسوارات” خاصّة بالطقوس الرمضانية، تصلح كهدايا مثل الفوانيس، منها “دلّايات”، وأهلة خشبية مكتوب عليها عبارات مثل “رمضان كريم”، و”عساكم من عوّاده”، و”فرحة رمضان” و”رمضان جانا”.
أما زميله إكرامي حسني في الدرب الأحمر، فاستقبلنا بترحاب، وأخبرنا أنهم يعتمدون على ورش خاصة بهم، وأحياناً على نساء يقمن بتجميع وتجهيز الفوانيس في البيوت.
ما أخبرنا به شريف وإكرامي، أن الصناعات اليدوية ذات الطابع الإسلامي تزدهر في الشهر الكريم، ولا تقتصر على الفوانيس فقط. كما أشار إكرامي إلى أن معظم الخامات مصرية، لكن قد يضاف إليها بطارية أو “ماكينة” أو شمعة إلكترونية، يتم استيرادها من الصين، لضمان أن يضيء الفانوس ويغني أغنية معينة.
لكن مازال للفانوس العادي القديم جمهوره، الذي يعتمد على شمعة يدوية، ويترك مهمّة الغناء لصاحب الفانوس نفسه.
خامات مصرية
لا توجد خامة لا تصلح لتصنيع فانوس، سواء الخشب أو البلاستيك والصفيح والورق المقوّى والقماش والزجاج الملوّن. كأن الأمر هو إعادة تدوير لكل ما في البيئة من مواد مهملة، لتشكيل فانوس جميل ومضيء.
ولعلّ أغرب أنواعها ذلك الذي يُصنع من أسلاك معدنية، ويبدو مثل هيكل فارغ لا يلفت النظر للوهلة الأولى.
الحاج عبده في باب زويلة، يملك ورشة متخصّصة بصناعة الفوانيس من الأسلاك المعدنية، وأخبرنا أنه يقوم بتقطيع الأسلاك المعدنية إلى قطع بأطوال مختلفة، ثم يثنيها ويشكّلها على هيئة فوانيس مختلفة الأحجام، وتتولى الماكينة وصل هذه القطع.
وعما إذا كان يبيعه “عارياً” هكذا قال “الحاج عبده”: “نبيعه كهيكل فارغ وكل مشترٍ يستطيع أنه يكسوه بورق ملوّن أو قماش شفاف، ويضيف له “لمبات كهربية”.
وما الذي يميّز فانوس السلك المعدني عن الأنواع الأخرى يجيب: البساطة، يدوي وسعره رخيص يبدأ من عشر جنيهات. وكل شخص يستطيع أن يضيف إليه ما يشاء بحسب إمكاناته.
بصفة عامّة لا تتميّز الفوانيس التي رأيناها في الورش والمحال، بالتنوّع الشديد في خامات التصنيع، وجمال أشكالها وألوانها فقط، وإنما تتميّز أيضاً بأحجامها، فهناك ما هو أصغر من حجم الكف، وما يناهز أربعة أمتار.
كما أخبرنا الحاج محمد زكي في السيدة زينب، أن الأحجام الضخمة التي تتجاوز المترين، مفضّلة للمحال والفنادق والشركات.
أسعار شعبية
بحسب إكرامي حسني، فإن أسعار “إكسسوارات” رمضان، بما فيها الفوانيس، تبدأ من 25 جنيهاً، وهو مبلغ بسيط في متناول الجميع، ثم يزداد السعر بحسب الخامات والأحجام وصعوبة التصنيع.
أما الحاج محمد زكي، فقال “إن السعر يبدأ من 35 و45، ويصل إلى أربعة آلاف جنيه للفانوس الواحد، وبالطبع يعتمد ذلك على حجمه وما يوفّره من إمكانات، فالشمعة الإلكترونية تكلف أكثر من الشمعة العادية، والفانوس العادي يكون رخيصاً عن الذي يغني ويضيء.
قاربت رحلتنا على الانتهاء بين ورش ومحال الفوانيس. كان في الأجواء رائحة القهوة والعطارة و”الياميش”.. الوجوه طيّبة تغمرها سكينة وشعور بالأمان. ولا أدري لماذا استوقفني “فراج” أكثر من غيره.. شاب في سن المراهقة، اختار أن يضع “البسطة” الخاصّة به بجوار سور مسجد السيدة زينب.
كان يبيع إلى جانب الإكسسوارات الجديدة، “فوانيس قديمة” مستعملة، سألته عن السعر فقال: “القديم بخمسين جنيهاً”. وهل هناك من يشتري “القديم” يا فراج: “آه.. في ناس ظروفها على قدها.. وفي ناس تحب القديم لأن القديم أحسن”.