قدمت فرقة ’’مسرح أجيال‘‘ الأميركية اللبنانية عرضها الفكاهي الأول بعد جائحة كوفيد-19 بعنوان: ’’ما إلي غيرو‘‘ (’’ليس لي سواه‘‘) في عدة مدن كندية، في تورونتو، ويندسور، أوتاوا، مونتريال، ادمونتون، وأخيرا في فانكوفر السبت 4 تشرين الثاني / نوفمبر.
يتساءل المشاهد من هو ذاك الذي ليس لأم حسين غنى عنه: أهو وحيدها حسين؟ أم زوجها زير النساء؟ أم عقلها الذي تركت فيه الجائحة ندوبا لن تُشفى؟
التقى القسم العربي بعد العرضين على مسرح Marcelin Champagnat في لافال شمال مونتريال، مبتكر مسرحيات ’’أم حسين‘‘ ومجسّد أبرز شخصياتها الكاتب ناجي المندلق ومخرج المسرحية عزيز شاراباتي.
كعادته، لا يكتب ناجي المندلق عن واقعه الآني فحسب وإنما أيضا ما يرسخ ويؤثر ويهّم الإنسان في أكثر من زمان ومكان. تداعيات الجائحة الأخيرة التي حلّت في أصقاع الدنيا شغلته خصوصا لجهة الأثر النفسي الذي تركته. فلقد طال أذى كورونا أيضا الصحة النفسية لملايين البشر، ولعل الندوب التي تركتها في نفوس كثيرين، بين حالات قلق واكتئاب، قد تحتاج وقتا طويلا ليبرؤ أصحابها منها.
هذا على الأقل في حالة ’’أم حسين‘‘ الشخصية المهجرية الاغترابية الشهيرة التي تشتكي أنها ’’راحت بالعرض‘‘ أي أنها ازدادت سُمنة بسبب عدم الحركة والجوع المزمن الذي أصيبت به بسبب كورونا. هكذا تتندر أم حسين على نفسها محرّرة عبر الهزل والفكاهة ما يعيث في داخل جمهورها من مشاعر متناقضة وشجون تُكدّر عيشهم، في مسرح ينتمي إلى ’’الكوميديا السوداء‘‘ أو المضحك المبكي.
’’ابتعاد عن الابتذال والتجريح‘‘
مسرحنا هادف يقدم موضوعات في العمق، لا يستخدم الضحك لمجرد الضحك أو يتوقف عند آفة أو موجة تحدث الآن، ما قد يفعله مسرح الستاند آب أو الشانسونيه. نتطلع إلى إيصال رسالة تهّز المشاهد وتضحكه في آن معا.
نقلا عن عزيز شاراباتي، مخرج ومؤلف موسيقي
’’نحاول عدم الانفصال عن الواقع وتناول مواضيع عالمية تُفهم في الغرب كما في الشرق، تمسّ الجميع وفي الوقت ذاته لا تطال أحدا بعينه‘‘، يقول شاراباتي.
تطرح المسرحية الجديدة خوف المجتمعات العربية في الأوطان الأم وفي المهجر من العلاج النفسي ونظرة السخرية والتهّكم بالمريض النفسي. لدرجة أنه مكتوب على هوية حسين (في المسرحية) بأنه معاق، وهي مبالغة طبعا لخدمة النص الدرامي.
تبرز المسرحية أيضا تعلق المجتمعات العربية بالشعوذات والتنجيم، تتهكم على المغزى من تكرار المفردة الواحدة في المحكية اللبنانية مثل ’’دس دس‘‘ ’’شم شم‘‘ ’’نط نط‘‘ ’’أح أح‘‘ وغيرها من المصطلحات، كما تطلق الأمثال والشعارات الإنسانية وسط تصفيق الحضور الحار وقهقهاته العالية.
تضطلع الكوميديا السوداء بوضع الأصبع على الجرح والدفع إلى طرح التساؤلات وليس بالضرورة إيجاد الحلول وتفسير المعاني.
ناجي المندلق: ’’قد اعتزل المسرح آجلا‘‘
يُسهب ناجي المندلق في الحديث عن تبلور العمل المسرحي الذي يمر بعملية مخاض كبرى، ’’أكتب وأقرأ ثم أعيد الكتابة والقراءة. اعتاد جمهوري على مسرح متكامل بكل عناصره، ما يندر وجوده أو يكاد يكون غير موجود في المهجر. اعتمد الأسلوب غير المباشر الذي يعّد قمة الكتابة المسرحية، حيث يقول الممثل شيئا أما المقصود فهو شيء آخر من دون ابتذال أو تجريح…جهد كبير يبذل على هذا الصعيد مما قد يدفع بي إلى الاعتزال ربما بعد عملي المقبل‘‘ كما يفصح ناجي المندلق. هذا الأخير نعى جملة تحديات تواجه مسرحه أبرزها صعوبة إيجاد الممثلين المتفرغين خصوصا العنصر الأنثوي، ’’والخطورة القصوى تكمن في عدم وجود ممثلين بديلين في حال دعت الحاجة، أضيف إلى ذلك تحديات الإنتاج‘‘.
أتقن عدد كبير من الممثلين دوره وأقنع المشاهد بتمثيله. كان لافتاً أداء نادر عودة بدور الطبيب النفسي وحسن الحاج الذي أقنع المشاهد في شكل خاص في أداء شخصية الفلاح مرزوق بين الأدوار الثلاثة التي لعبها، علما أنه أبدع دائما في دور أبو الياس متقنا التأتأة والتلعثم في الكلام. ولعل ناجي المندلق، الصانع الرئيسي في مسرحه، قد يحتاج بعد اليوم إلى ندِِّ يُشاطره خشبة المسرح ويستفزه لمزيد من الإبداع والأداء المتميز كما يشاطره رؤيته المسرحية لمساحة إبداع جديدة، علّه يعدل عن التنحي والاعتزال. هذا الفنان المخضرم لم يقدم بعد كل ما عنده بكل تلك المقدرة الخارقة على إحداث ضحك يصل إلى حدّ القهقهة.
لا يريد المندلق أن يكتفي مشاهده بالضحك ويرتاح على كرسيه وإنما يهدف إلى تحفيزه على التفاعل وطرح التساؤلات عن كل ما يجري حوله في العمق. يُكثر هذا الكاتب استخدام اللغة الهجينة التي تتأرجح بين العربية والإنجليزية، ما يُعرف بالعربيزي، ويساعده ذلك في اللعب على الكلام فلا تكون المفردة بظاهرها فحسب بل إنما بباطنها أيضا. علما أن ’’فرقة مسرح أجيال‘‘ تأسست في ميشيغان في الولايات المتحدة عام 1988، وهي حافظت على لونها ونهجها المهجري الاغترابي.
إن شخصية أم حسين فرضت نفسها عليّ منذ اللحظة الأولى وهي التي اختارتني وتقمّصت فيّ.
نقلا عن ناجي المندلق، ممثل وكاتب مسرحي
يقص المندلق أنه عاش في بلدته مرجعيون جنوب لبنان في بيئة مختلطة فيها مسلمون شيعة ومسيحيون، لذا استطاع تدريب فتاة بادىء الأمر على تأدية دور أم حسين، لناحية اللكنة وطريقة اللباس وارتداء الحجاب إلى ما هنالك من تفاصيل خاصة بالشخصية الجنوبية الشيعية. وبعد بيع بطاقات كل العروض في خريف العام 1994 وقبل يومين من بدئها، توفى والد الفتاة التي اعتذرت عن الدور وكان من المستحيل إيجاد البديلة. ’’لم يُترك لدي خيار آخر، فارتديت الإيشارب والفستان والنظارات ودخلت هذه الشخصية التي كنت حفظت دورها عن ظهر قلب، ومنذ ذلك الحين لم أستطع أن أخرج منها‘‘، على حدّ تعبير ناجي المندلق. تفوّق هذا الممثل القدير في أداء الشخصية واستحوذ على حب الجمهور وإعجابه وأصبحت ’’أم حسين‘‘ محورا هاما في مسيرته الفنية.
لقد عوّضه المسرح عن السينما، عشقه الأول، حيث درس اﻹخراج السينمائي في أكاديمية الفنون في سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة. ’’ولعل النجاح المنقطع النظير لشخصية أم حسين جعلني أمضي قدما في التركيز عليها لتكون بطلة أعمالنا من دون منازع، علما أنها كانت مثل غيرها من الشخصيات عندما ابتكرتها‘‘ على حد تعبيره.
لا أفقه إلى اليوم سرّ إعجاب الناس بشخصة أم حسين، ماذا يرون فيها ولمَ هم متعلقون بها إلى هذه الدرجة؟ إنها ليست إمرأة فحسب، بل هي ترمز أيضا إلى كل مهاجر سواء كان شابا أو طفلا أو عجوزا…حتى ألوان فستانها ’’المورورة‘‘ أي الزاهية ترمز إلى تمثيل كافة أطياف المجتمع اللبناني.