شددت الرحال في عطلة الأسبوع المنصرم إلى مدينة كيبيك عاصمة مقاطعة كيبيك. الطقس الجميل كان على الموعد، لذا بلغت المتعة أقصاها هذه المرة بمناظر الطبيعة الخلابة وبوجوه الزوار من كل جنس ولون يعجون في كل مكان في هذه المدينة المبنية على الطراز المعماري الأوروبي. ولعل أكثر ما استمتعت به كان تلك النزهة إلى أقدام شلال مونمورنسي، حيث شاهدته عن كثب لأول مرة بعدما تم الانتهاء من بناء جسر خشبي للمشاة يقودهم إلى قاعه لمتعة قصوى بمشاهدة عظمة هذا المنظر الطبيعي الخلاب والساحر.
كيبيك مهد الحضارة الفرانكوفونية في أمريكا الشمالية
يشبه استكشاف مدينة كيبيك القديمة، المُدرجة عام 1985 على قائمة التراث العالمي من قبل اليونيسكو، إلى حد ما، الذهاب إلى أوروبا من دون عبور المحيط الأطلسي. وتدين المدينة بطابعها الفريد لمزيج التأثيرات المعمارية البريطانية والفرنسية على حد سواء. كل ما عليك فعله هو التجول فيها لرؤية هذا المزيج، سواء كانت مباني رسمية أو مؤسسية أو تجارية أو مساكن خاصة.
في أبعادها العامة وتوزيع الغرف، فإن منازل منتصف القرن التاسع عشر في كيبيك القديمة مستوحاة من ضيق منازل لندن في بريطانيا وارتفاعها. ومع ذلك، فهي مجهزة أيضًا بعناصر عملية من العمارة الفرنسية تتكيف مع الخصائص المحلية، بما في ذلك الأسطح شديدة الانحدار التي تنزلق منها الثلوج بسهولة.
يميز هذا الأثر الفرنسي الإنجليزي المختلط فعليًا كل جانب من جوانب المشهد الحضري في هذه المدينة قبلة السياح والوجهة الأحب على قلوب أبناء مقاطعة كيبيك.
يُفتن الزائر ويُسحر بكل ما في هذه المدينة من عراقة وتاريخ قديم: الأبنية وطرازها المعماري، الأزقة والشوارع الضيقة، التحصينات والمواقع الأثرية التي تعود به إلى ذاكرة عمرها أكثر من 400 عام.
سهول أبراهام (Les Plaines d’Abraham) في غرب المدينة، لا زالت شاهدة على المعركة بين الإنكليز والفرنسيين التي دارت رحاها على أرضها في 13 أيلول / سبتمبر 1759 وهي لا زالت تحتفظ بالمدافع والتحصينات الحربية. هذا وتخلّد الجادة القريبة اسم كل من القائد الإنجليزي الجنرال جيمس وولف (James Wolfe) الذي حقق نصراً سريعا على خصمه القائد الفرنسي ماركيز دي مونتكالم (Marquis de Montcalm) وجنوده، علما أن القائدين لقيا حتفهما في هذه المعركة،
موسم سياحي مزدهر يطوي صفحة الجائحة المؤلمة
ذلك اليوم الصيفي بامتياز، ازدانت كيبيك بأبهى حلة لاستقبال زوارها الذين شغلوا في ذروة الفصل الحالي أكثر من 83% من إجمالي استيعاب الفنادق عبر المدينة القديمة. ليتنفس تجار المدينة والقيمون على المرافق السياحية فيها الصعداء بعد عامين من العجز في المداخيل بسبب جائحة كوفيد-19. في هذا الإطار يقول رئيس ’’جمعية التنمية التجارية في كيبيك القديمة‘‘ ماركو دوشين (Marco Duschesne) لمذياع هيئة الإذاعة الكندية (نافذة جديدة) ’’كل شيء أفضل من العام الماضي في هذا الموسم الأول الذي تعود فيه الحياة إلى طبيعتها بعد عامين من الجائحة. بدأنا نعاين ازدهار الموسم السياحي منذ بداية الصيف، ويؤكد غالبية التجار بأن القطاع السياحي واعد جدا وقد حقق تطورا ملموسا بعد عامين صعبين جدا ألحقا الضرر الفادح بهذا القطاع وتراجع عدد السياح بسبب القيود الصارمة التي فرضتها الحكومة الككندية على الواصلين إلى البلاد من الخارج‘‘.
في عطلة الأسبوع المنصرم، كان الزوار على موعد مع مهرجانين احتلا قلب المدينة النابض، مهرجان الضحك (ComediHa) الذي يستمر حتى 27 آب / أغسطس الحالي، ومهرجان ’’احتفالات فرنسا الجديدة‘‘ (Les Fetes de la Nouvelle-France) من 4 إلى 7 أغسطس. يضاف إليهما عرض موسيقى الروك (Rock of Ages) على غرار عروض برودواي الشهيرة في مدينة نيويورك الأميركية، يقدمه أعرق مسرح في كيبيك ’’الكابيتول‘‘ (Le Capitole).
بعد التطواف في كيبيك القديمة مشيا على الأقدام والتقاء كل أشباح ذلك الماضي الأليم، عرّجت على الشارع المخصص للمشاة فقط في الصيف والأشَهر في وسط المدينة: ’’سان جان‘‘ (Rue St-Jean)، حيث ما لذ وطاب من القهوة والخبز والحلوى الباريسية بامتياز. تعج المقاهي والمطاعم والمحال التجارية السياحية على هذا الشارع بالزوار من كل حدب وصوب، وتصدح في الأجواء أصوات الإيقاعات الإيرلندية على آلة الغيتار في شكل خاص، التي تعزف في الفناء الخارجي للمطاعم الكثيرة التي تقدم المطبخ الايرلندي. يستوقفك أيضا فنانون وفرق فنية جوالة منتشرة في كل زاوية من زوايا الأرصفة، تقدم مسرحا وألعاب بهلوانية ورقصا و عزفا موسيقيا وغناء. تشكل هذه الألوان الزاهية الحية متعة قصوى لزائر المدينة، وهي لا تستهوي وتستقطب السياح من الخارج فحسب، بل أيضا من مدينة كيبيك ذاتها ومن مدينة مونتريال التي تبعد ساعتين ونصف بالسيارة عن وسط كيبيك.
لمَ لم تلحق الشهرة بشلال مونمورنسي على غرار شلالات نياغرا؟
في ذلك اليوم الحار مع درجات حرارة تجاوزت الـ 30 درجة مئوية، كان لا بد من إيجاد مكان منعش مُطّرٍ للأجواء وبعيد عن صخب المدينة يساهم في الارتماء في مشهد آخر مختلف تماما. تستكين عبر مناظره الروح وتصفو وتسترسل في فضاءات وفسوحات مشرعة على الفرح والحرية، متحدة في عالم رحب جميل.
استقلت سيارتي حيث احتاجني ضعف الوقت بسبب ازدحام حركة السير من أجل الوصول إلى شلال مونمورنسي (Chute Montmorency) الذي يبعد فقط 12 كلم عن وسط مدينة كيبيك، يعني 15 دقيقة في اقصى حد في الحالة الطبيعية.
يصل ارتفاع هذا الشلال المذهل صيفا شتاء إلى 83 متراً متجاوزا شلالات نياغرا الشهيرة في مقاطعة أونتاريو بمقدار 30 متراً. هذا في حين أن عرض شلال مونمورنسي يبلغ أقل من 50 مترا بالمقارنة مع شلالات نياغرا التي يبلغ عرضها أكثر من 790 متراً، هذه الشلالات التي توجت في الماضي إحدى عجائب الدنيا السبع.
بالنسبة لحبيب رحمانية ’’منظر كل من شلال مونمورنسي وشلالات نياغرا مذهل و خاطف للأنفاس. لكل واحد ميزاته ورونقه، وإذا كان يتفوق شلال كيبيك بالارتفاع الشاهق على شلالات أونتاريو فإن هذه الأخيرة تخطف الأبصار والأنفاس معا بتشكيل ذلك الستار الناصع البياض الغضّ على مدّ البصر الذي لا يشبع منه النظر‘‘.
أتى رحمانية الكندي الجزائري مع عائلته من مونتريال لزيارة الشلال لأول مرة في حياته بعدما كان زار في الماضي شلالات نياغرا.
يمكن الوصول إلى الشلالات بالتلفريك أو باختبار قدرتك على التحمل من خلال تسلق 487 درجة من الدرج البانورامي الذي شيد على الجبل المقابل للشلال. أو أيضا باختبار قوة قلبك وقدرتك على خوض مغامرة مثيرة من خلال ركوب الزيب لاين (Zipline) مُعلقا بالهواء وهو خط مزدوج مضغوط يبلغ طوله 300 متر، يعبر خليج الشلال. الأمر متروك لك فيما إذا كنت تريد الذهاب في نزهة مليئة بالعجب أو المغامرة. ولعل أفضل مكان آمن يمكن مشاهدة الشلال منه هو الجسر المعلق فوقه، ومع ذلك يجب أن تملك قلبا ميتا لكي تنظر منه إلى عظمة الشلال وتتخطى الشعور الذي قد يتملكك بقوة السقوط من أعلى الشلال إلى أسفله.
لم يكن قاع شلال مونمورنسي جذابًا على الإطلاق، قبل أن يتم الانتهاء مؤخرا من معظم الحلبة الساحرة المصممة لزيادة الاستمتاع بالجزء السفلي من الموقع التراثي لحديقة مونمورنسي (Parc de la Chute-Montmorency). يسمح هذا المكان المتجدد للزائر بمعاينة قوة الشلال وعظمته. يوفر المسار الخشبي الجديد جوًا مختلفًا تمامًا، حيث يتجول الزائر في بيئة مشجرة. وهو مثالي للمشاة الذين يرغبون في الاقتراب من الشلال ورؤيته من هذه الزاوية الجديدة.
استرسال في ماضي الزمان وتقليب في دفتر الصور والذكريات
جلست عند أقدام الشلال بعدما رويت عطشي بمياهه الباردة المتدفقة من الجبال والصخور وغسلت وجهي الذي يقطر عرقا بسبب الحر الشديد بهذه المياه المنعشة. رآني زائر يتحدر من أصول هندية أتعثر بالحجارة أمامي، فهّم لمساعدتي،
في هذا المكان تزول الحدود والاختلافات بين البشر، هم على غرار هذه الطبيعة المعطاءة الغناء الطافحة بالخير. من حولك مساحة مشجرة وأفق مفتوح على الأمس والحاضر والغد، يدعوك إلى الحلم والغوص في الذكريات الجميلة. جلست على صخرة أنظر زرقة السماء الصافية تخترقني أشعة الشمس الحارقة، مشدودة إلى منظر ذلك الثوب الأبيض الذي يتدلى من علو شاهق، ويرسم في الأسفل ألوان قوس القزح، منصتة إلى خرير المياه التي يلفح رذاذها وجهي.
’’تقشف في الميزانية أوجب السفر داخل كيبيك‘‘
زاهية برنيس قررت مع زوجها هذا الصيف أن يخصص كل منهما عطلته للأولاد في وقت مختلف، وبذلك يغطيان خمسة من إجمالي ثمانية أسابيع من العطلة المدرسية الصيفية، يجاهدان خلالها بتشتيت تركيز أبنائهما الثلاثة على الألعاب والمنصات والشاشات الإلكترونية.
متحدرة من منطقة القبائل في شرق الجزائر وتعيش في مونتريال منذ 18 عاما، تأتي زاهية أول مرة في حياتها لزيارة شلال مونمورنسي. كل خطوة في نزهتها في مدينة كيبيك التي تستغرق يومين محسوبة بالورقة والقلم، لتوفير أقصى بسبب الضائقة اقتصادية.
تقول المتحدثة: ’’هذا الصيف لن نسافر بعيداً، وقد اخترنا وجهات سياحية داخل مقاطعة كيبيك تتماشى مع ميزانية مقبولة بسبب غلاء المعيشة الفاحش الذي نعيشه هذه الأيام. كذلك فأنا أختار الأنشطة غير المكلفة، وجلّ النزهات نمضيها في الهواء الطلق وفي المسابح والحدائق الفسيحة الغناء عبر مقاطعة كيبيك. أضيفي إلى ذلك أننا نختار عندما نكون بعيدين عن المنزل أن نذهب مرة واحدة إلى المطعم، وبقية الوجبات أعدّها بنفسي‘‘.
تفضل زاهية برنيس النزهة في شلال مونمورنسي على االنزهة في كيبيك القديمة، لأن ’’في هذا المكان مناظر طبيعية خلابة تذكرها بوطنها الأم الجزائر‘‘.
إذا أردت أن أصف لأمي التي تعيش في الجزائر ولم ترَ في حياتها قط شلال مونمورنسي، أقول لها: ’’هذا الشرشار أمي شبان بالزاف‘‘، لا يشبه بشيء الشلالات الصغيرة في بلادنا، غاية في الروعة والجمال‘‘.
نقلا عن زاهية برنيس، سائحة في كيبيك
(المصدر: هيئة الإذاعة الكندية، الموسوعة الكندية، مكتب ’’مدينة كيبيك‘‘ السياحي (Quebec Cité)، أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)