كان الطقس على الموعد، كذلك أهل المدينة التي لا تنام في الصيف مونتريال، أتوا من كل حدب وصوب وملأوا المكان فرحا وابتهاجا. في ظل أجواء أشبه بعرس كبير لا ينتمي إلى أشخاص بعينهم أو إلى مكان أو جغرافيا محددين، كل العالم كان بين يديك في أيام مهرجان ’’أوريانتاليس‘‘ الصيفي الذي احتضنه وسط مرفأ مونتريال القديم من الخميس إلى الأحد الماضي.
الأجدر بك أن تركن سيارتك بعيدا وتأتي مشيا على الأقدام إلى رصيف الساعة في مرفأ مونتريال القديم، الازدحام خانق ويوازي عدد الناس على الطرقات عدد السيارات المزدحمة في تلك الليلة في ثاني أيام مهرجان ’’أوريانتاليس‘‘. المشهد تغير كثيرا عن آخر مرة زرت فيها المهرجان في بداياته، وإذا كان كبُر المهرجان بالعمر بضعة سنوات إلا أنه تطور أكثر من ذلك بكثير، واستطاع لأن يفرض وجوده كأكبر تظاهرة ثقافية اتنية تشهدها مونتريال إن لم نقل كندا ككل. علما أن البعض يجازف فيقول: ’’إن مهرجان أوريانتاليس فريد من نوعه في كل أنحاء القارة الأميركية الشمالية‘‘.
…على غرار ساحة جامع الفنا المراكشية
ليس مهرجانا عربيا فحسب، إنما العالم برمته تصادفه على أرصفة المرفأ القديم في المدينة الكوسموبوليتية. تتساءل في نفسك من أين أتى كل هذا الخليط من الشعوب والثقافات والأعراق؟ كيف تم استقطاب جميع هؤلاء المشاركين وكم هو عدد الجيش الذي يعمل وراء الكواليس لإنجاح هذه التظاهرة الثقافية المميزة والرائدة؟
الجواب بسيط تقول لي عبير المصري، مديرة الإنتاج في المهرجان منذ تأسيسه عام 2010. ’’إننا نعمل بقلوبنا ولا نشعر بالوهن أو بالتعب الذي يصيب الجسد فحسب. إننا نستمد الطاقة من الوجوه الفرحة التي تؤم المهرجان، هذا الرضى في ملامح رواد ’أوريانتاليس‘ هو كل ما نحتاجه لتتشدد عزيمتنا ونتابع المسيرة‘‘.
تجدر الإشارة إلى أنه حسب ما ذكرت لي المسؤولة الإعلامية للمهرجان ليلى محيوت فإن عدد المتطوعين لا يتجاوز الـ 30 شخصا. ولكن على الأرض تشعر أن هناك جيشا يعمل في الخفاء ويحرص على أن يكون كل شيء على ما يرام. لجهة التنظيم والأمن والتنسيق اللوجستي في مكان استقبل في تقديرات أولية، كما ذكرت لي السيدة محيوت، ’’000 150 زائر في أربعة أيام‘‘.
كان قلب محيوت وعينها ليلة الجمعة كما ليلة الأحد على الفنانيْن الجزائرييْن اللذيْن اختارتهما للمشاركة في فعاليات المهرجان بالغناء على مسرح الهواء الطلق. والتفاعل بلغ ذروته في ساحة ’’أوريانتاليس‘‘ في حفلة الفنان أمين شيبان كما في حفلة الفنان فيصل مينيون (Fayçal Mignon) وألهب كل على طريقته حماسة الحضور وصخبه.
بين الحشود الغفيرة تلك الليلة، وقف مبتكر المهرجان وصانعه جوزيف نخلة في مكان منعزل بعيد عن الضوء كعادته. بدا فرحا مغتبطا راضيا عن المسار الذي تكمله ابنته غوى التي ترأس حاليا مهرجان ’’أوريانتاليس‘‘. ’’’إن هذا النجاح لم أعد أنا مسؤولا عنه، إنه ثمرة هؤلاء الشباب الذين يكملون ما بدأته، بتفكير جيل العصر الرقمي الذي يتجاوز جيلنا‘‘، يؤكد جوزيف نخلة.
أما عن فكرة المهرجان فيقول نخلة ’’إنها مقتبسة من فكرة ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش في جنوب المملكة المغربية. هذا الفضاء الشعبي للفرجة والترفيه للسكان المحليين والسياح على حد سواء‘‘. راقت هذه الفكرة لمن أسس في مونتريال قبل بضع سنوات ’’مهرجان العالم العربي‘‘، فبادر إلى إطلاق مهرجان آخر يحاكي دفء الصيف وبهجته وعطوره وألوانه الزاهية.
…لكن بالآخر في وقت فراق، تقول فيروز في أغنيتها
عندما رأيت ليلة الأحد، في آخر أيام المهرجان، المشاركين يقومون بفك الخيام المنصوبة ولملمة أشياءهم، تساءلت في نفسي لمَ لا يستمر هذا المهرجان لأيام أخرى؟ على الأقل حتى يوفي المشاركون تعبهم في كل ما بنوا وأعدوا طيلة عدة أيام عشية المهرجان. لقد استنفد فريق الإعداد وغالبيته من المتطوعين كل الطاقات والجهود لكي تلبس أم المهرجانات مونتريال أبهى ثيابها وتتباهى بها أمام عيون الكون بأسره!
هؤلاء لم يكونوا يخفون فرحتهم وانشراح صدورهم بالمشاركة بهذه التظاهرة، التي عادت عليهم بالكثير من المردود المعنوي ومدّتهم بطاقة إيجابية. هذا عدا عن الفخر الذي شعروا به في نفوسهم لأنهم استطاعوا تمثيل بلدانهم الأم أفضل تمثيل. الخيمة التي عاشوا فيها على مدى أربعة أيام وليالٍ كانت بمثابة قطعة من وطنهم الأم، حيث كان عليهم أن يروّجوا لثقافته وإرثه الحضاري ويقدموه لأهل مونتريال بأبهى وأرقى حلّة.
شعرت أنني في بلدي الأم تونس. كما أنني استطعت أن أكتشف الكثير من الممارسات والتقاليد والفنون للعديد من شعوب العالم. منحني مهرجان أوريانتاليس فرصة زيارة بلدان كثيرة لم أزرها في حياتي قط، ولكنني شعرت الليلة كأنني زرتها بالفعل.
نقلا عن أمال، زائرة كندية تونسية في مهرجان أوريانتاليس
لا يمكنك أن تقف لا مبالٍ على باب خيمة اليمن، شباب في ريعان العمر، يرقصون حفاة القدمين على الإسفلت، محاولين تلقين الزوار رقص الشبواني الشعبي ذا الطابع الحربي في محافظة شبوة، فتفشل خطوات وتنجح أخرى. وبكل صبر وطول أناة يكرر الشاب الكندي اليمني أسامة هزاع خطواته من دون كلل أو ملل. ويعبر رفيقه في خيمة اليمن محمد رباد عن اعتزازه بثوبه وجنبيته اليمنية، واصفا المشهد في ’’أرويانتاليس بأنه ’’خرافي اسطوري‘‘. في خيمة اليمن، يعرف عن نفسه أيضا الشاب محمد ضباب، يقول: ’’أنا ولدت في محافظة شبوة في قبيلة بنو هلال، أرتدي الزي الشعبي اليمني والشال والجنبية الشبوانية البنية اللون. إنني فخور كل الفخر بتمثيل تراث بلدي الأم في هذا المهرجان‘‘.
كانت هذه اول مشاركة لي في هذا المهرجان، أكثر ما أعجبني قرب الدول العربية من بعضها البعض، لحمة قوية بين من يمثل هذه الدول في بلاد القيقب. إنها الوحدة العربية التي كنت أتوق دوما إلى رؤيتها تتحقق. كم اتمنى ان ارى ذلك على أرض الواقع في بلداننا الأم تماما كما أراها هاهنا. تظاهرة مثل أوريانتاليس تزيدني حبا لكندا، بسبب احتوائها على العديد من الثقافات التي تعيش في وئام وانسجام وتناغم.
نقلا عن نُسيبة درويشه، مشاركة في خيمة اليمن ورئيسة فرقة ’’صبايا الشام‘‘ للدبكة في مونتريال
توضح المتحدثة بأنها من أصل سوري ولكنها أرادت أن تمثل اليمن ’’حبا بالتنويع ولكي أوصل الرسالة بأن الشعب العربي كله واحد ولن يتجزأ‘‘.
أتى محمد خالد من مدينة عدن إلى مونتريال عام ٢٠١٧، وهو يزور لأول مرة مهرجان ’’أوريانتاليس‘‘، حيث شعر أنه انتقل إلى عدن بالأغاني الفولكلورية اليمنية وبلقاء أبناء الجالية اليمنية.
الجزائر، المغرب، فلسطين، تونس، لبنان ومصر كانت تحتل خياما أيضا في ساحة المهرجان.
يعتبر كريم حمدي الذي كان يرقص بالعصا رقصة أهل صعيد مصر أنه ’’فخر كبير لي أن أمثل بلدي الأم مصر في مهرجان كبير كهذا. إنها فرصة لإظهار الثقافة المصرية القديمة والحديثة في آن معا‘‘.
بدورها تقول المسؤولة عن خيمة تونس هدى جريبي ’’إن المشاركة في أوريانتاليس هي فرصة جيدة للترويج لبلدي الأم تونس وتشجيع الناس على زيارته. الثقافة بلا شك هي مفتاح العبور إلى الدول وشعوبها‘‘.
…عرّافة تقرأ البخت
في مهرجان ’’أوريانتاليس‘‘ كل ما تحتاجه، فعدا عن الفرجة في ’’سوق المدينة‘‘ و ’’خيام دول الشرق‘‘، ومسرحين تقدم عليهما العروض الغنائية والراقصة على مدار الساعة، وورشات عمل لتعليم الرقص والرسم والحرف اليدوية والنقش بالحناء، وكيوسكات تبيع المأكولات والمشروبات لعدة مطابخ عبر العالم، هناك ركن لعرّافة العصر الحديث، ميلينا أمريتا من أصل فرنسي. اسم أمريتا هندي روحاني يعني الرحيق الذي يسيل من القلب. وكل الطقوس في خيمتها تدخلك في عالم روحي، على الرغم من كل الضجيج الذي تسمعه حولك.
تفتح أمريتا أوراق التاروت (Tarot) لقراءة ماضي وحاضر ومستقبل من يأتي لاستشارتها من رواد المهرجان. أوراق تحتوي على صور وأسماء ورموز قد تحمل للمؤمن بها رسالة أو إلهاما أو ’’مجرد طمأنة بأن الطريق التي يسير فيها صحيحة‘‘، كما تقول ميلينا أمريتا. وتضيف: ’’يأتي إلي من يبحث عن الحب والأمان وسط عالم تسوده المصالح والمادة‘‘.
زفة وعرس حقيقي حضر فيه العروسان والمدعوون
يوم السبت الماضي، تمت مراسم عرس في ساحة مهرجان ’’أوريانتاليس‘‘ حسب طقوس العرس اللبناني وأقيمت ’’الزفة‘‘ للعروسين اللذين كانا تزوجا خلال جائحة كوفيد-19 ولكن لم يقم لهما عرس أحيته فرقة ’’الزفة‘‘.
العروس من أصل لبناني والعريس من أصل فلسطيني، وقد أقمنا لهما الزفة بالسيف والترس والطبل والزمر والدبكة، على الطريقة اللبنانية.
نقلا عن بيار موسى، المسؤول عن الخيمة اللبنانية ورئيس فرقة ’’سهرية زفة غروب‘‘ لإحياء الأعراس في مونتريال
أعرب المتحدث الذي رافق كبار الفنانين اللبنانيين على خشبات المسارح، عن مفاجأته بالأعداد الكبيرة للجمهور الذي أمّ المهرجان، علما أنه يشارك في فعاليات ’’أوريانتاليس‘‘ منذ عشر سنوات على الأقل. وبرأيه أن انقطاع أنشطة المهرجان الحضورية في العامين الماضيين بسبب الجائحة قد يكون السبب في توافد الناس بهذا الشكل هذه السنة.
يعرض بيار موسى في خيمته كل ما له علاقة بالتراث اللبناني من لباس وزي تقليدي إلى آلات موسيقية وترية، كما يحيي ورشات للتدريب على رقص الدبكة من الفولكلور اللبناني.
فيصل مينيون ’’الجذاب‘‘ الذي اهتز المسرح تحت قدميه
’’الجزائر حبيبتي‘‘، ما أن تجاهر بها أغنيته حتى يعلو الصراخ في ساحة المهرجان، صراخ مدوٍ من الجمهور الذي يهلل ويصفر ويصفق ويضيء هاتفه، طالبا من الشاب الجزائري الملقب بـ Mignon المزيد والمزيد. من جانبه يعيد فيصل مينيون تكرار كلماته ’’Algérie mon amour‘‘ ليحدث هيجان كبير ويهتز المسرح بسبب رقصه الحماسي وقفزه أمام جمهوره بكل قوته وطاقاته. حالة هيستيرية تسود في المكان تصاحبها حالة من النشوة والسكر أكان عند الفريق الموسيقي على المسرح أو عند الحضور الذي غصّ به المكان في الهواء الطلق ليلة الجمعة 19 أغسطس الماضي.
تقول ليلى محيوت ’’كنت أعلم أنه نجم الشباب وعنده ’تْريند‘ (تيار) قوي على مواقع التواصل، ولكن لم أكن أحسب أن شعبيته لهذه الدرجة‘‘.
وأكثر، اضطررت إلى أخذ الصف في الطابور لكي أجري مقابلة مع هذا النجم الذي يقيم في مونتريال، ريثما ينتهي المعجبون من التقاط صور معه، ومنهم من تسلق السور وراء المسرح واكتفى بأخذ صورة سلفي مختصرة، مجتزئة.
الأطفال كانوا أيضا يرددون كلمات أغنياته على إيقاع الراي الجزائري. يسرد فيصل أنه أتى في زيارة إلى كندا عشية الجائحة ولكنه لم يستطع العودة إلى الجزائر بسبب توقف حركة الطيران. ورب ضارة، إذ تعرف بعد ذلك على زوجته الكندية الجزائرية، ومن حينها لا يريد الابتعاد عنها. أما عن نشاطه الفني فهو يتابعه من كندا خصوصا مع تطور العصر الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي حيث يطلق الأغنيات الإفرادية بين الفينة والأخرى. يقول النجم الشاب ’’إن آخر أغنية نشرتها قبل ستة أشهر حققت 20 مليون مشاهدة. علما أن عدد متابعي صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي تخطى الـ 100 مليون متابع‘‘.
إذا أردت الانتشار في كندا، فعلي أن أغني بالإنكليزية والفرنسية، ولكنني أفضل أن أحافظ على لوني وأغنيتي الجزائرية. لا أفكر إطلاقا في رسم مسيرة جديدة في الأغنية الكندية ويكفيني ما حققته من انتشار في بلدي الأم وفي كل بلدان المغرب الكبير. جمهور هذه البلدان يعرف جيدا فيصل مينيون ويتابعه.
نقلا عن فيصل مينيون، مغني راي جزائري شارك في مهرجان أوريانتاليس