المصالح الدائمة، أو البراغماتية السياسية التي تمارسها واشنطن منذ عقود، حملت الرئيس الأميركي جو بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط، متخليا عن جزء من شعارات حملته الانتخابية التي أدت إلى فتور في علاقاتها التاريخية مع حلفائها التقليديين في مقدمتهم المملكة العربية السعودية نتيجة تقاعس واشنطن عن اتخاذ مواقف حاسمة في حرب اليمن وفي عدم تعاطيها بجدية مع الاعتداءات التي تعرضت لها منشآت حيوية سعودية من قبل مليشيات إيرانية، وعن بعض مشاريع الجناح اليساري في إدارته، الذين أدخلوا المنطقة في فوضى منذ ان فرضوا على دولها اتفاقا نوويا سنة 2016 سمح لطهران بتحريك بؤر النزاع في المنطقة وتهديد أمن واستقرار عديد من الدول.
في مقاله، الذي نشره في صحيفة الواشنطن بوست، عشية رحلته التاريخية إلى الخليج العربي كشف الرئيس الأميركي عن رؤية جديدة في تعاطي إدارته مع أزمات المنطقة، حيث قال إنه سيسافر الأسبوع المقبل إلى الشرق الأوسط، لبدء فصل جديد، مشددا على أهمية المنطقة في تعزيز المصالح الأميركية، مؤكداً أن وجود شرق أوسط أكثر أمناً وتكاملاً أمر ضروري لنواحٍ عديدة.
مشكلة هذه الإدارة الأميركية أنها ورثت الانكفاء الأميركي منذ عهد الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب، جعلها في “مكان ما” خارج بعض حسابات ومصالح دول المنطقة، التي أعادت تموضعاتها وفقا لما يخدم أجنداتها الخاصة، بعيدا عن الصيّغ الدولية التي كانت تعطي الأولوية لما يتقاطع مع الولايات المتحدة، فهذه الدول التي تعمل منذ مدة على تصفير مشكلاتها وعلى ربط نزاعاتها قامت بخطوات كبيرة اختصرت فيها مراحل دبلوماسية في علاقاتها مع أعدائها وخصومها وفقا لمقتضيات مصلحتها الوطنية وأمنها القومي من طهران إلى تل أبيب مرورا بأنقرة موسكو وبكين.
ما يحتاجه الرئيس بايدن وإدارته في هذه المرحلة إعادة ترميم الثقة مع هذه العواصم، وليس اختزال حضور واشنطن بمصالحها دون البحث في الأسباب التي دفعت هذه الدول الى أخذ مسافة بينها وبين واشنطن، والتمايز عنها في كثير من القضايا الإقليمية والدولية.
يتناول الرئيس بايدن في مقالته أمن ممرات الطاقة، وهي قضية استراتيجية تعني الاقتصاد العالمي وخصوصا في مرحلة باتت فيه حماية ممرات الطاقة بحجم حماية إنتاجها، لكن واشنطن في السنوات الأخيرة تخلت عن أدنى مستوى من الحماية عندما تركت منشآت خليجية ضخمة عرضة لاعتداءات ميليشياوية وسمحت للحرس الثوري تهديد الملاحة في مياه الخليج العربي ومضيقي هرمز وباب المندب، فكل ما جرى من اعتداءات كانت على مرأى ومسمع واشنطن التي اكتفت بالتصريحات دون القيام بأي فعل رادع.
يعود بايدن للحديث عن عزل إيران في الوقت الذي نضجت فيه المفاوضات السعودية الإيرانية في بغداد، وهي قاب قوسين أو أدنى من الإعلان عن خطوة دبلوماسية بين الجانبين تخفف من حدة التوترات بينهما، بعيدا عما قد يقدمه بايدن في جدة للسعوديين أو لباقي العواصم الخليجية، فحتى تل أبيب الشريك التاريخي والدائم لواشنطن تتصرف بمنأى عن الموقف الأميركي، فالميوعة الأميركية في معالجة الملف النووي وتراخيها في الضغط شجع طهران على زيادة التخصيب في منشآتها والوصول إلى نسب مرتفعة تؤهلها لامتلاك رؤوس نووية، وهذا ما يضع المنطقة على حافة مواجهة كبيرة إذا قررت تل أبيب التصرف منفردة تحت حجة الخطر النووي الإيراني.
المنطقة وثرواتها تحتاج إلى مقاربة مختلفة، وليس إلى أحلاف عسكرية وانقسامات عمودية ومواجهات، هذا ما تُصر عليه طهران والرياض، خصوصا ان الأخيرة تمارس سياسة متوازنة إقليميا ودوليا وتدرك حاجة الجميع إلى مصادر الطاقة، لكن هذه المرة حمايتها وحماية ممراتها والاعتراف بمصالح شعوبها ودولها يوازي مصالح واشنطن، فيما تبقى القضية الفلسطينية مقياس الفشل والنجاح في أي تحولات.