الـ ’’ثقندورث نـ لقبايل‘‘ لا يضاهيها جمالا وهي ’’اجمل أزياء العالم‘‘ في عيون ابناء منطقة القبائل في مونتريال.
كانت تتباهى ناديا وتتمايل بكل فخر واعتزاز بـ ’’جبّة‘‘ جدتها التي حرصت على الاحتفاظ بها عندما حزمت حقائبها عشية الهجرة إلى كندا قبل أكثر من 30 عاما.
جبّة قبائلية ثمينة محاكة بخيوط من ذهب أو ’’الفَتْلُة‘‘ كما يقول أهل الجزائر، منمقة بحبات من اللؤلؤ ومرصعة ببعض المجوهرات المحلية، كانت ورثتها الجدة عن أمها التي وصلت إليها من جيل إلى جيل.
جبّة السيدة المخضرمة ناديا، بلونها اللازوردي البهي ليست موروثا ثقافيا أو مجرد فستان تقليدي جزائري أمازيغي فحسب في عيون ناديا، بل إنما هي أيضا هوية وانتماء وعراقة يمتد تاريخها إلى الحضارة الأمازيغية قبل مئات السنين. فخورة هذه الكندية التي تتحدر من منطقة القبائل في شرق الجزائر، بكل هذه الرموز التي يختصرها هذا الزي المزدان بألوان الحرية والذي يزيدها أنوثة وإشراقة وبهاءً.
وإذا كان الأزرق في اللباس القبائلي النسوي يرمز إلى الحرية، فإن اللون الأصفر يرمز إلى الشمس التي تعد مصدر قوة في معتقدات أهل منطقة القبائل كما يرمز الأخضر إلى الأمل والتجدد والحياة.
كل هذه الألوان مجتمعة وأكثر كانت تزين أجساد جميع النساء الحاضرات تلك الليلة في النسخة السنوية الثامنة لـ ’’يوم الجبَّة القبائلية‘‘. الذي توقف في السنتين الماضيتين بسبب جائحة كوفيد-19. وقد اختار المنظمون من ’’شبكة النساء المنحدرات من منطقة القبائل والأمازيغ‘‘ أن يتم الاحتفاء في النسخة الحالية بـ ’’ثوب الجدة‘‘ أو كما يقولون باللغة الأمازيغية ’’ثقندورث نـ جدة‘‘.
’’يوم الجبّة القبائلية في مونتريال‘‘ عرس جزائري بامتياز
أجواء البهجة والسرور اجتاحت أرجاء صالة الاحتفال تلك الليلة وبدت ملامح الاعتزاز والفخر على وجوه السيدات من كل الأعمار، كبارا وصغارا. وهن شاركن في مسابقة أفضل جبّة قبائلية وقدمن عرض أزياء في غاية البهاء والجمال بكل عفوية وتلقائية، وقد جلست لجنة تحكيم تكتب ملاحظاتها وتختار من بين المتباريات أكثرهن التزاما بمقاييس المسابقة وهي تُلخص بثلاثة: الأصالة، والعراقة والانسياب والانسجام في طريقة اللباس. أشاعت هذه الأجواء جوا من الألفة والانسجام بين ثلاثة أجيال من الهجرة. وتخلل الحفل غناء وعزف خاص بموسيقى منطقة القبائل، تمايلت على أنغامها خصور الفتيات والسيدات والجدات وحتى الرجال تفاعلوا بطريقة خاصة مع الموسيقى. لوحة جمالية غاية في الروعة أمكن مشاهدتها ذلك المساء بالألوان الفضفاضة والاقمشة المطرّزة والحلي والجواهر والتبرج الذي تزينت به النساء. يضاف إلى كل ذلك الرقص الشعبي الجزائري الفولكلوري المتميز في مختلف أشكاله، سواء من حيث الأداء أم النمط أو الطقوس.
تسرد جميلة عدّار إحدى المنظمات لهذه التظاهرة الثقافية الاجتماعية، في سياق شرح مدى اعتزاز النساء في منطقة القبائل بزيهم التقليدي، قصة جرت في منطقة القبائل قبل أكثر من عقد. وفي تفاصيل الحكاية أن فتاة في منطقة القبائل ذهبت مرة إلى المدرسة مرتدية الجبّة القبائلية، فما كان من إدارة المدرسة إلا أن طردتها ومنعتها من متابعة الدروس بهذا اللباس. وفي رد الفعل على الإجراء الذي قامت به إدارة المدرسة، أتت كل الفتيات في اليوم التالي إلى الصفوف يرتدين الجبة القبائلية. وبحسب المتحدثة، فإن هذا يدّل على مدى تعلّق أبناء منطقة القبائل بتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم وهم ’’يستميتون في سبيل الدفاع والذود عنها‘‘. تتابع قائلة ’’إننا بهذه الاحتفالية نهدف إلى التأكيد على خاصية الجبة القبائلية التي تستمد بقاءها من وجودنا ونريد أن تستمر الأجيال المقبلة في توارثها والافتخار بها. نريد الاحتفاظ بهذا الزي التقليدي ولسنا بحاجة لأن يفرض علينا أحد ثوبا إيديولوجيا إسلاميا. نريد أن نستمر في العيش بهوية جزائرية عربية قبائلية أمازيغية من دون التخلي عن أي من هذه الهويات‘‘.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الاحتفالية تزامنت مع زيارة فرحات مهنّي المعارض الجزائري الذي ينحدر من منطقة القبائل، زعيم ’’الحركة من أجل استقلال منطقة القبائل‘‘ (MAK) إلى مونتريال.
وصادف أن يلقي مهنّي محاضرة في اليوم ذاته الذي نظم فيه ’’يوم الثوب القبائلي‘‘ وينتقل بعدها إلى مقر الحفل مما أحدث بعضا من البلبلة بعد إلقائه خطاب مقتضب باللغة الأمازيغية. وقد صفق له بعض من الحضور فيما ترك الصالة عدد كبير آخر من المشاركين، وخلت الصالة فجأة من نصف الحضور تقريبا. عند مغادرتي، وأمام مدخل المدرسة في الخارج، تعالت الأصوات في مواجهة كلامية بين الوفد المرافق لمهنّي وعدد من الحضور. هؤلاء غضبوا من ’’تسييس الاحتفالية الثقافية الاجتماعية باستضافة شخص لا يحظى بتأييد الغالبية العظمى من أبناء منطقة القبائل الموجودين في مونتريال‘‘.
من جهتها، أكدت جميلة عدّار أن المنظمين للحدث لم يوجهوا مطلقا الدعوة إلى مهنّي للحضور، ولكن عندما عندما اتصل بهم ممثل حركة الـ’’ماك‘‘ في مونتريال يطلب إذنا بحضور مهنّي، لم يمانعوا من قبيل اللياقة واللطف. تقول عدّار: ’’ليس من حقنا أن نمنع أحدا من الحضور، لقد طلب منا ذلك ونحن وافقنا ولكن لم نكن نتوقع أن يقوم فرحات مهنّي بإلقاء كلمة مما سيؤثر على سير الحفل ويحدث ذلك الارتباك‘‘.
الجبَّة القبائلية هي تراثنا وعنواننا، هي أنا، هي أمي، هي جدتي. الإنسان بلا ذاكرة ومن دون لغة وهوية لا قيمة له ولا يمكن أن يكون قادرا على المشاركة في ازدهار الأوطان وتطورها أو المساهمة في بناء المجتمعات، أكان في البلد المقيم أو في الاغتراب. الاحتفاظ بتراث الأجداد يعني أننا باقون على قيد الحياة وباقية معنا كل تلك التقاليد والطقوس والحضارة التي توارثناها من جيل إلى جيل.
نقلا عن جميلة عدّار، مسؤولة عن تنظيم ’’يوم الثوب القبائلي‘‘ في مونتريال
لكل مقام مقال
لكل مناسبة ثوبها وجبَّتها عند أهل منطقة القبائل. هناك جبّة ترتديها المرأة في المنزل وأخرى للخروج إلى الشارع، وبالطبع هناك الجبّة الخاصة بمناسبات الأعياد والأعراس. يقال إن العروس القبائلية لا يمكن أن تدخل بيت زوجها من دون 5 جبّات على الأقل، إضافة إلى الجبّة الملكية الخاصة بالعروس. وللمرأة التي تعمل في الحقول وفي موسم قطاف الزيتون الوفير في منطقة القبائل، جبّة تسمح لها بالقيام بالمجهود الجسدي بكل راحة. كذلك هناك طريقة للبس الجبّة القبائلية تختلف بين الفتاة العازبة والمرأة المتزوجة.
في روايات النساء اللواتي التقيتهن تلك الليلة أيضا، أنه يوجد في الجبّة القبائلية مجموعة من الرموز و الأشكال المنقوشة يدويا على القماش والتي قد تعبر عن أحاسيس المرأة القبائلية، خصوصا تلك التي لا تجروء على البوح بها لزوجها أو أهل بيتها. كالغضب والاكتئاب أو الفرح والأمل. الجبة القبائلية لها دوما علامة فارقة ويمكن معرفة في أية منطقة وأية حقبة قد تمت حياكتها.
أما عن دَقّة الوجه أو ما يُعرف بالوشم الذي رأيته على وجوه وأيدي عدد من السيدات تلك الليلة فهو يعتبر مظهرا من مظاهر الزينة. يعتمد على طريقة رسم ثابتة لا تمحى مع الزمن، تقوم على غرز إبرة في الجلد بحسب الرسم المقرر. ’’ولا نكاد نرى امرأة كبيرة في السن في منطقة القبائل يخلو وجهها أو يداها من هذه النقوش والتمائم‘‘. يذكر أن الوشم اشتهر في أوساط النساء الغجريات، والغاية من الدق كما تقول البدويات ’’الغوى‘‘ وإظهار المرأة بشكل جميل وجذاب ومثير للانتباه، وإضفاء حسن على حسنها إذا كانت جميلة وتجميلها إذا كانت غير ذلك.
ارتداء الجبّة القبائلية تواصل مع الجذور
نحن بحاجة إلى إحياء يوم الثوب القبائلي وأن نزدان به لأن ذلك يشكل لنا لحظة حميمية نتواصل فيها مع جذورنا، مع ذواتنا، مع حمضنا النووي. من منا لا يحب أن يرى نفسه في المرآة؟
نقلا عن جميلة عدّار، ناشطة اجتماعية
تؤكد المتحدثة أنها بحاجة إلى استرجاع كل ذلك الإرث الحضاري، كل الذكريات والصور الجميلة من عهد الطفولة. أن يترامى إلى مسامعها إيقاع أهزوجة أو عبق صوت واقصوصة.
تشتاق جميلة عدّار إلى حفلات القرية في مسقط رأسها في شرق الجزائر، إلى أيام العيش الهني والضيافة والكرم وذلك الدفء والحبور.
مواسم الفرح كانت فرصة للمشاركة الجماعية، وكل أبناء القرية مدعوون إلى وليمة العرس والفرح. حشود كبيرة تلتقي حول الموائد بجو من الأُلفة والمحبة. كنت أظن أن حدوث ذلك هو أمر طبيعي، أين الغرابة في أن تكنّ الناس لبعضها البعض كل هذه المودة والألفة والتبادل. ولكن عندما هاجرت إلى كندا تيقنت بأن ما كان لنا كان مذهلا حقاً وصعب المنال.
نقلا عن جميلة عدّار، مسؤولة عن تنظيم ’’يوم الثوب القبائلي‘‘ في مونتريال
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)