’’من الحب ما قتل‘‘ (Mourir d’aimer) رواية تعيد فيها سلام شيّا سرد التفاصيل في حياة جميع ضحايا الانفجار المزدوج الذي وقع في مرفأ بيروت في الرابع من شهر آب / أغسطس 2020. تقول الكاتبة: ’’ها هي سنتان قضتا ولكن للأسف لم تُكشف الحقائق ولا تحققت العدالة‘‘.
لا أقوى على الصراخ، يخونني صوتي[…] أشعر بضيق في التنفس وتغمر الدموع وجهي. ماذا تريدني أن أقول، صرخت بصوت مدوٍ فجأة: إن أحلامي هي تعزيتي الوحيدة؟ إنها المرة الوحيدة التي أستطيع فيها رؤية عائلتي، أرى وجوههم مرة أخرى، اسمع ضحكاتهم، أمدّ ذراعي أمامي بأمل مجنون في أن يدي يمكن أن تلمسهم. أحاول الاقتراب منهم، الاستماع إلى كلماتهم ولكن لا يمكنني سماع أي شيء البتة. يبدو الأمر وكأنني في فيلم صامت حيث لا أستطيع التحدث أو حتى سماع أي شيء، أي شيء[…] ما أشد ألمي، نفسي حزينة حتى الموت.
(من رواية ’’من الحب ما قتل‘‘ الفصل الـ 18، ص. 163)
رمزية قصوى في بقاء ’’أمل‘‘ الوحيدة بين أفراد عائلتها من آل عساف على قيد الحياة
إنها أمل ابنة الثمانية عشر ربيعا، بطلة الرواية وهي إحدى ضحايا انفجار مرفأ بيروت التي تنجو باعجوبة من موت كان حتمياً. تقول أمل هذه الكلمات لحبيبها الصحافي جلال إثر خروجها من غيبوبة طويلة واكتشافها أن جميع أهلها ماتوا. ماتت أمها ’’آية‘‘ الفرح والجمال التي كانت في أوتيل فينيسيا تتمم ترتيبات عرس قادم. ماتت فى الانفجار أيضا شقيقتها الحامل رندة التي لم يكتمل فرحها بمولودها البكر الذي انتظرته طيلة عمرها، فأتى إلى الدنيا يتيم الأم. ومات شقيقها هاني، رجل الإطفاء الذي مات في الانفجار الثاني بعدما وصل إلى مرفأ بيروت للمشاركة في إطفاء الحريق الهائل الذي تسبب به الانفجار الأول. وفُقد والدها سامي الذي لن تلتقيه إلا في ختام الرواية، فاقد الذاكرة. علما أنه يتبادر إلى ذهن القارىء أن الأب هو أيضا لاقى المصير الغاشم ذاته، وكان يمكن أن تكون هذه النهاية قد حصلت فعلا في الواقع ولكن ’’أنا أردت أن يبقى الأب على قيد الحياة، أريده أن يعيش‘‘، تقول سلام شيّا في حواري معها.
مات من مات من فرط الحبّ
إن جميع من ماتوا في لبنان طيلة السنوات الماضية بالانفجارات والقنابل والعبوات الناسفة وكل ضروب آلة الموت التي حصدت آلاف الأرواح البريئة، جميع هؤلاء ماتوا أو أصيبوا بالجراح والعاهات المزمنة لأنهم أحبوا بيروت حتى الموت.
نقلا عن سلام شيّا، موّقعة الرواية الباكورة ’’Mourir d’aimer‘‘
إنه قدر غاشم مستسلم لاشكال وخطوط قرأتها برّاجة بصّارة تقرأ في الفنجان. لقد شاهدت أسماء في فناجين القهوة عشية الانفجار مصيرا أسود ينتظر أبطال الرواية من آل عساف.
’’أجل، تجيب شيّا، فأنا أردت أن أظهر هذه الصورة بقوة، فتنذر قارئة الفنجان القارىء بالمصير المحتوم لأبطال الرواية وبأن هناك أمورا سيئة، مؤلمة ومفجعة ستقع‘‘. وتستدرك المتحدثة بأن اللبنانيين قادرون على تغيير هذا القدر الغاشم، لأنهم مثل طائر الفينيق (Phoenix) في الميثولوجيا الإغريقية، يولدون من جديد من رماد احتراق أجسادهم.
صورة لبنان الغابر الملقب بـ سويسرا الشرق تطلّ أكثر من مرة في سطور الرواية، وكأن سلام شيّا لا تريد أن تصدق ما جرى لـ ’’أم الشرائع وست الدنيا بيروت‘‘. علما أن الروائية نفسها لم تعرف ذلك الماضي الغابر الذي ظلّ لها، ولأبناء جيلها ممن ولدوا في الثمانينيات من القرن الماضي، صورة في برواز وزمانا لم ولن يُقدّر لهم ربما أن يعيشوه في يوم من الأيام.
في كل أزمة، يقول اللبناني: إنه أسوأ ما حصل في لبنان في تاريخه، ليفاجىء أن الآتي أعظمّ وما بعده يفوقه سوءا، وهكذا دواليك حتى طفح الكيل وبلغ السيلُ الزُّبى بوقوع الانفجار المزدوج في مرفأ بيروت، إنها ذروة المآسي وفوق طاقتنا على الاحتمال، كثير علينا يا ربي، فأين أنت أولست موجودا؟
نقلا عن سلام شيّا، ولدت في جمهورية الغابون في أفريقيا من أبوين لبنانيين، هاجرت إلى كندا عام 2009
كيف بلحظة واحدة تغيّر كل شيء وتجمّد الزمن؟
الرواية هي ذلك الصراخ المكبوت منذ وقوع الانفجار في نفس المتحدثة، وكان يجب أن يخرج من لدنها لكي تشعر بالراحة وتستكين نفسها من الغضب الذي يتأجج في أحشائها. كتبت صفحات الرواية باللغة الفرنسية لتعرّف أبناء المجتمعات الغربية أيضا على كل التفاصيل وتنقل معاناة الضحايا وذويهم. ’’جريمة انفجار بيروت يجب أن تبقى عالقة في الأذهان، لا يجب نسيانها أو تناسيها وطيها كما يحاول البعض أن يفعل، بل يجب معرفة الجناة ومحاسبتهم، عندها فقط يستطيع أهل بيروت أن يبكوا ضحاياها ويقيموا أيام الحداد‘‘.
قد يمكن أن نتخطى جريمة مرفأ بيروت في حال ظهرت الحقيقة وتحققت العدالة[…] إن أكثر ما يؤلمني أنه مر سنتان على الحادثة ولم نصل إلى طرف خيط لمعرفة الحقيقة ولا زالوا يجعلون العصي في الدواليب[…] وبدل أن يعيش أبناء بيروت حزنهم على أحبة فقدوهم أو أن يرتاح من أصيب بالجراح والتشوه ويتلقى العلاج بسلام، هؤلاء مضطرون إلى النزول إلى الشارع من أجل المطالبة بأدنى حقوقهم المشروعة وهي الحقيقة والعدالة.
نقلا عن سلام شيّا، كاتبة رواية ’’من الحب ما قتل‘‘ التي صدرت عن منشورات بودلير في ليون في فرنسا (Editions Baudelaire)
دقة في التوصيف وفي توثيق الأحداث وفي نقل الحالة النفسية ومعاناة ضحايا الانفجار في كل سياق الرواية الباكورة للكاتبة الشابة. كأن هذه الأخيرة كانت موجودة بالفعل في بيروت في تلك اللحظات ولا يمكن أن يصدق القارى أنها تروي ما سمعت وشاهدت وشعرت به من خلال مكالمات مع الأهل والأصدقاء وقراءة الصحف والمجلات ومشاهدة القنوات التلفزيونية والفضائية وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي. ’’لا لم أكن يومها في بيروت، تؤكد سلام شيّا، ولكنني إلى هذا القدر قريبة من بيروت وتعيش في كياني في كل لحظة وكأنها لم تفارقني البتة، صحيح أنني أعيش في كندا منذ 13 عاما ولكن قلبي وروحي تركتهما هناك بين أهلي وأحبتي وأصدقائي‘‘.
واكبت المتحدثة التي تعمل في دار نشر كتب مدرسية وأكاديمية عريقة في مونتريال، لحظة بلحظة كل الوقائع وكانت تسجلها في ذاكرتها من دون دراية منها أو تصميم على كتابة رواية، وهي في الأساس مترجمة ولديها إدمان على قراءة الكتب ولكنها لا تكتبها. ’’حتى والدتي تفاجئت بالرواية، أنا نفسي لم أكن أعلم أن لدي هذا السيل الجارف وما أن كتبت أول حرف حتى انسابت الكلمات بكل العذوبة والسلاسة والتلقائية، لم أفكر كثيرا ولم افتش عن المفردات، وجدت الهاما يجتاحني وغزارة في الصور والمشاهد تنهال على مخيلتي وتفكيري‘‘ قالت سلام شيّا. كان لا بد لقلبها المشحون ببركان من الألم والغضب أن ينفجر على الورق.
إن جزءا مني موجود في كل شخصية من شخصيات الرواية المختلفة التي يجمعها حب لبنان. وأنا على غرارها متعلّثة بكل حبة تراب من بلد الأرز، حتى لو كنت بعيدة عن لبنان فهو في قلبي وتحت ظلاله تعيش عائلتي وأصدقائي[…] مهما حققنا من نجاح في كندا ومهما كبرنا وطال بنا الزمان فإننا نبقى على صلة وطيدة بلبنان ولا نستطيع نسيانه، هذا الحب لا يضعف مع مرور الوقت، على العكس إنه يقوى ويتعمق.
نقلا عن سلام شيّا، كندية لبنانية نشرت مؤخرا باكورتها الأدبية ’’من الحب ما قتل‘‘
…كيف للإنسان أن تنسلخ روحه من جسده وينفصل عن كل أشياءه وذكرياته؟
بالدقائق والثواني والأيام والسنوات توثق المتحدثة كل الوقائع قبل وإبان وما بعد انفجار مرفأ بيروت. تنسج سلام شيّا خيوطا رفيعة تربط الشخصيات بين بعضها البعض في كريشندو مبهر يؤكد على تمكنها من أدوات كتابة الرواية. وتضع الشابة الكندية اللبنانية بين يدي القارئ النهم باكورة أدبية تتمع بكل المقاييس والمقومات التي تضعها على قائمة الروائيين المحترفين. مع أن الرواية توثق أحداثا واقعية إلا أنها تسردها بكثير من التشويق والإثارة وبوفرة في الاحساس وفيض المشاعر والصور الأدبية الجميلة والمعاني الإنسانية العميقة.
تبدأ شيّا رويدا رويدا بتعريف القارئ على شخصيات روايتها وتشكيل علاقة وطيدة بينهم وبينه، يتعلق هذا الأخير بهم وتنشأ علاقة ود وقرب بين الأثنين. ما يجعل القارئ يتأثر جدا بسياق أحداث الرواية، إنه يأسف ويحزن لما حلّ ’’بمن قتلهم شدة حبهم وتعلّقهم ببيروت‘‘، ولا يريد أن يترك الرواية من دون أن يتم قراءتها من الجلدة للجلدة. هذا لأن شيّا تتفنن في سرد الأحداث وتغليف الشخصيات بالغموض لكي تترك القارئ نهماً متلهفاً لمعرفة التتمة والنهاية.
عليّ الرحيل ولكن إلى أين المفرّ؟ تصرخ مِينا واناملها تلامس لآخر مرة نوتات البيانو الذي كان صوته بالأمس القريب يصدح في أرجاء المكان وفي كل فضاءات بيروت. بعيون تملؤها الدموع، تقول ابنة الـ 78 حولاً: إنني أعيش هنا منذ نصف قرن، منزلي هو الشيء الوحيد الذي أملكه، لم يتبق لي سوى الذكريات وانتم تريدون حرماني منها أيضا؟ […] قبل أن تهم بالخروج، ألقت مينا نظرة أخيرة على منزلها، وفيه الأثاث تحطم والجدران تشققت والسقف انهار نصفه والأشياء كلها ملقاة إربا إربا على الأرض[…] منزلها هو كل عالمها وهو كل ما كلها على هذه البسيطة، يمثل حياتها التي بنتها على مدى عدة أعوام ودمرت كلها في بضعة ثواني.
(مقطع من رواية ’’من الحب ما قتل‘‘، الفصل 11، ص. 102)
هناك طبيعتان في الإنسان، واحدة خيرة وأخرى شريرة
في كل حل لعقدة تستعرضها الرواية، هناك عقدة أخرى تتكون وطرح لمعضلة وجودية أزلية جديدة ترتسم في أفق الرواية الباكورة لسلام شيّا، مثل صراع الإخوة الذي كان من أيام قايين وهابيل وهو لا زال إلى اليوم متجسدا في القصة في علاقة دانيال بأخيه سامي.
أليست خيانة دانيال لأخيه سامي أكثر مرارة من خيانة القدر في انفجار مرفأ بيروت وأكثر بشاعة؟
تقول سلام شيّا إنها أرادت أن تضفي عنصر الواقعية على روايتها بتعمد نقل صور حقيقية تحصل في المجتمع اللبناني، فكما هناك الخير في الطبيعة البشرية هناك أيضا الشر. توضح بأنها أرادت أن تكون الرواية واقعية قدر الامكان في ذهن القارئ وليس مجرد رواية يقرأها ويتجرد عن شخصياتها، أن يستطيع أن يعيش أحداثها ويتخيلها ويتأثر بها. ’’وكما أسرد الواقع الحزين، تقول شيّا، كذلك أظهر في سياق الرواية أن أشياء جميلة باعثة للأمل يمكن أن تحدث أيضا عاجلا أم آجلا. برأيها إنه لا يزال يحلو العيش في بلد الأرز على الرغم من كل ما مرّ به شعبه، ولا زالت النوايا في التغيير إلى الأفضل موجودة‘‘. تنقل المتحدثة أنها كانت في زيارة للبنان مؤخرا مع عائلتها بعد غياب 4 سنوات وقد وجدت أن غالبية الناس تعاني أكثر من أي يوم سبق من الضائقة المالية والاقتصادية ولكن لم يغير ذلك بشيء من الدفء والطاقة الإيجابية عند اللبنانيين التي لا زالت موجودة‘‘.
لم يكن بالإمكان التعرف على المدينة، الناس يائسون، وكل شخص تتحدث إليه كان له رد الفعل ذاته. كارثة أخرى أشبه بحلول نهاية العالم، وكأننا لم نصل إلى الحضيض بعد. كان الرابع من أغسطس هو القشة التي قصمت ظهر البعير. يأتي الانفجار المزدوج في وقت كان فيه اللبنانيون أصلاً ضعيفين بسبب الأزمة الاقتصادية والوباء.
(مقطع من رواية ’’من الحب ما قتل‘‘، الفصل 11، ص. 107)
إلى ذلك، تنددّ الروائية بالتابوهات والعادات والتقاليد الرثة البالية والتعصب الطائفي في المجتمع اللبناني. تعبر عن اشمئزازها من السيادة الذكورية بتفضيل خلفة الصبيان، وكذلك تنتقد نظرة المجتمع إلى الزواج المختلط بين الأديان كما تسهب في شرح الأسباب الاجتماعية التي جعلت من مروى فتاة عانسا ممقوتة من أترابها بشخصيتها الفظّة، وإلى ما هنالك من معايير ومظاهر تحكم المجتمع اللبناني وتتحكم فيه.
عند الأنفاس الأولى لمولود جديد، يرتبط هذا الأخير باسم ودين وحزب سياسي وطبقة اجتماعية وبلد ينتمي إليه، الغريب أن الناس يعتقدون على الرغم من ذلك أنهم أحرار.
(’’من الحب ما قتل‘‘، الفصل الخامس، ص. 52)
’’شو بيبقى من الرواية؟‘‘
تصور الروائية سلام شيّا الانفجار على أنه أتى نتيجة حتمية لما كان يعيشه اللبنانيون، وكان شرا لا بد منه. لم يقع الانفجار في مرفأ بيروت فحسب بل في كل نفس من نفوس شخصيات الرواية. هذه الشخصيات التي تعاني كل ضروب الذل والخنوع والانكسار، كان يحتقن في داخلها لهيب نار أشد فتكا من شحنة نترات الأمونيوم التي تسببت بالانفجار الذي أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص ينتمون إلى كل المناطق اللبنانية ومن مختلف الأعمار والفئات والأجناس والأديان والطبقات الاجتماعية.
تسدل الستارة وتنتهي الرواية على قصة الحب التي تنشأ بين جلال الصحافي العصامي الذي يبحث عن الحقيقة كل الحقيقة وأمل الفنانة التشكيلية التي ترسم بريشتها خطوطا أكثر إشراقا من خطوط الفنجان السوداء التي قرأتها البصارة في بداية الرواية. هذا الحب يحمل بارقة الأمل وإشراقة شمس جديدة، وانبلاج فجر آخر يطوي الليل والظلمة.
كُفّ عن الكلام وقبلني، تقول أمل لحبيبها جلال في ختام الرواية.
(أعدّت التقرير كوليت ضرغام منصف)