لم يمكن أن تنفصل جوقة التراث الشرقي في كندا عن واقعها المثقل بالجراح خلال تقديم حفلها الأخير بعد أيام على وقوع الزلزال المدمر في حلب وموت باسم الحداد، أحد أعضاء الجوقة بعد صراع مع مرض السرطان.
شدّت الأصوات وسط شموع مضاءة على إيقاع أغنية ’’أومن‘‘ الحزين للسيدة فيروز، في استهلال الحفل الأحد المنصرم، الحضور إلى القعر. الحزن والتأثر الشديد باد على وجوه المنشدين والمنشدات خلفهم صورة رفيقهم باسم الحداد الذي رحل قبل أيام. الأصوات متشحة بالسواد، كئيبة تنعي اشتداد الظلمة والكآبة والحزن والبؤس. ليس باسم وحده الذي رحل وإنما أحبة كثيرون في الوطن الأم سوريا لغالبية أعضاء الجوقة، مات أحبتهم في حلب واللاذقية وإدلب إثر الزلزال الأخير.
آنذاك، كل الأجواء على المسرح كانت مهيأة للدخول في حالة حداد ليتخيّل المشاهد نفسه للحظة وسط دائرة من السواد الحالك تكتم عليه أنفاسه. لقد تبدلت على الفور حالة الارتياح التي دخل بها، هو الذي قدم متوسلا قدسية إرث طربي شرقي لإعادة رابط الوصال مع جذوره واستعادة قيثارة الشوق والحنين، كما أكد غالبية الحضور من مختلف الجنسيات العربية تلك الليلة.
’’لم تستطع قدماي أن تحملاني، كنت أشعر بالوهن والتعب المطبق واستعجل انتهاء الحفل‘‘، يقول قائد الجوقة ومؤسسها المايسترو سبيرو دميان. وهو اعتذر من الحضور سلفا عن عدم قدرة الجوقة على العودة مرة ثانية إلى المسرح بعد انتهاء الحفل، كما يجري في العادة في عمر هذه الجوقة الفتي الذي يناهز اليوم الـ 5 سنوات.
لا تحسبنّ رقصي بينكم طرباً، فالطير يرقص مذبوحاً من شدة الألمِ
كان هذا لسان حال سبيرو دميان الذي لا زال يبكي رفيق العمر في مونتريال وأحبة في اللاذقية، مسقط رأسه، غيبهم الموت الغاشم.
لا لم يكن خيارا مدرجا أن نُرجئ موعد الحفلة […] وفاءً لأرواح شهدائنا وحفاظاً على العهد بإكمال المسيرة وعدم الاستسلام للإنكسار والموت.
نقلا عن سبيرو دميان، مؤسس وقائد جوقة ’’كورال التراث الشرقي في كندا‘‘
وبعد الاستكانة والتعزية في رائعة الأخوين رحباني التي تؤكد كلماتها ’’أن خلف الليل العاتي الأمواج يعلو سراج وأن القلب الملقى في الأحزان يلقى الحنان…وأن في صمت الكون المقفل من يصغي لي…‘‘، أطلت أصوات المنشدين على شرفات الفرح والحياة من جديد مع عهد بـ ’’راجعين يا هوى‘‘ من الريبرتوار الرحباني أيضا.
انتشلت هذه الأنغام المُشرقة العابقة بأهازيج الأمل والبهجة الحضور من أسفل القعر. حملته إلى مروج غناء وعبق من الرياحين لينتشي وتطرب روحه. ترك الحضور حزنه جانبا وطفق يصفق ويردد كلمات ريبرتوار عريق من أغنيات ’’كادت أن تمحوها الذاكرة من جور الزمن والغربة وقسوتهما‘‘ كما يصف الفنان الكندي السوري كميل عين.
يضيف المتحدث بأن ’’الأصوات المفعمة بالإحساس استطاعت أن تحمل الأمل والرجاء إلى قلوبنا التي أدماها الزلزال[…] لأبناء وطني أقول إن بعد العسر يُسر وبعد الموت حياة.‘‘
اختار سبيرو دميان باقة ألحان من ريبرتوار عمالقة الأغنية العربية بكل العناية مضمنا أغنيات قديمة جدا رافقت طفولة الجيل المخضرم اليوم من أبناء الجاليات العربية في مونتريال. بين هذه الأغنيات ’’لاموني اللي غاروا مني‘‘ للفنان التونسي الهادي الجويني التي لامست ذاكرة الجمهور الكندي التونسي في شكل خاص. وردد الحضور كلمات ’’البنت الشلبية‘‘ و’’مريم مريمتي‘‘ و’’لزرعلك بستان ورود‘‘ وغيرها من الأغنيات من التراث السوري واللبناني والعراقي والمصري.
ملامح النشوة والحبور والاغتباط كانت بادية على غالبية وجوه الحضور تلك الليلة الذي ناهز عدده الـ 700 متفرج. ويحرص هؤلاء على متابعة حفلات كورال التراث الشرقي في مونتريال وأوتاوا ’’المفعمة بالأصالة والذوق الفني الخلاق الذي يردنا إلى فولكلورنا وتراثنا الشرقي ويشعل فينا الحنين إلى الوطن الأم‘‘ كما تؤكد كل من رانيا رشوان وبولين عطالله من أصل لبناني.
بالنسبة لعبد الرحمن الوحيدي من أصل ليبي، فقد تجلت الأصالة تلك الليلة ’’بأبهى حللها حيث ضبطت الأصوات في ألحان صعبة للغاية‘‘، كما يقول.
يؤكد حمدي من أصل تونسي أن زوجته العضوة في الجوقة تجد متعة قصوى في انتمائها إلى كورال ينشد الفن الأصيل ويبقي اللحمة مع التراث والجذور.
مشاركة زوجتي في كورال التراث الشرقي أضافت الكثير لها على المستوى الوجداني والعاطفي والنفسي، خلقت لها توازنا في التغريبة الكندية.
نقلا عن حمدي، أحد الحضور في حفلة ’’كورال التراث الشرقي‘‘
’’لأن الموسيقى تحاكي الروح فهي لا بدَّ وصلت هذه الليلة إلى أسماع ضحايا الزلزال‘‘
بالنسبة لأستاذة الكيمياء من أصل سوري رؤى الكيال، فإنها المرة الأولى التي تشاهد فيها حفلا لكورال التراث الشرقي، وقد شدتها الأغنيات إلى الزمن الماضي الجميل. ’’إننا نفتقد اليوم إلى هذا النوع من الأداء الرائع الذي طاف بنا في كل دول الشرق والمغرب الكبير‘‘، تقول المتحدثة.
وتعتبر كيال بأن المشهد الذي خلّفه الزلزال لم يكن سهلا وكان لا بد أن يتمثل هذه الليلة في الوجوه والقلوب والأصوات. ’’كان لا بد من احترام أرواح الضحايا، عبر المنشدون عن حزنهم العميق وبنفس المقدار عبروا أيضا عن وجوب استمرار الحياة التي تأخذنا مرة إلى الأسفل ومرة إلى الأعلى […] الحياة سوف تستمر وستبقى الموسيقى رسالة الجمال، ولعل طابع القدسية الذي تزدان به موسيقانا الشرقية يجعلها تصل اليوم إلى أرواح شهداء الزلزال، فترقد نفوسهم بسلام.‘
راديو كندا