نجحت ماريا ظريف في قص رواية الحرب للأطفال بنعومة وسلاسة وصدق وأسلوب إبداعي وحرفية عالية بكل تفاصيل النص والصورة ورسومات الشخصيات واختيار الموسيقى والأغنيات. استطاعت ظريف كسر الصورة النمطية التي التصقت بالطفل السوري اللاجئ وقدمت فيلما يستسيغه الصغار والكبار على حدّ سواء.
لعل الفيلم الكرتوني الطويل الباكورة لماريا ظريف ’’دنيا وأميرة حلب‘‘ هو أكثر من مأساة إنسانية وأعمق من رواية عن الحرب، إنه استحضار لنموذج حياة غابرة في حلب الشهباء وَجَدها النقاد ’’أوتوبية خيالية‘‘ وتجدُها السينمائية الكندية الحلبية ’’حقيقية وواقعية‘‘.
تعيش دنيا المولودة في عائلة مسلمة في إحدى عمارات حلب التي تعكس نموذجا فريدا للتعايش بين الإثنيات والأديان المختلفة. في هذه العمارة كانت تسكن أيضا السينمائية الشابة قبل استقرارها في كندا قبل نحو 20 عاما و’’كانت وحدة حال بين جميع الجيران مسلمين، مسيحيين، أرمن وأكراد.‘‘
تستحضر ظريف جلسات قراءة الفنجان مع ’’أم دبوّس‘‘ والمشاركة في صنع الجبنة والمكدوس وغيرها من الأكلات في المطبخ والمونة الحلبية.
قوة السحر في حبات ’’البركة‘‘
دنيا ابنة الست سنوات تحب اللعب والتعلم وتؤمن بالمفعول السحري لـ ’’حبة البركة‘‘ التي تتحول إلى تعويذة تحميها من الشرور. وهي تلجأ في كل ضيق إلى ’’أميرة حلب‘‘ التي تعيش في خيالها فحسب، على غرار شخصية الجنية في قصص الأطفال.
بعد وفاة والدتها واعتقال والدها مطلع الحرب السورية ودمار منزلها في حلب، يتعين على دنيا سلوك طريق اللجوء مع جدّيها، لتجد بعد طول عناء الملاذ الآمن في قرية نائية في مقاطعة كيبيك.
قدمت ماريا ظريف ’’دنيا وأميرة حلب‘‘ في حلقات مسلسل تلفزيوني كرتوني للأطفال على شاشة ’’تلفزيون كيبيك‘‘ عام 2020، وفي كتاب يحمل العنوان ذاته عام 2021.
أما الفيلم الذي صدر نهاية العام الماضي فهو بإنتاج كندي فرنسي مشترك، وقد وقعت ظريف الكتابة والإخراج ورسومات الشخصيات المتحركة، وشارك في الإخراج رسام الكاريكاتير الكندي الفرنسي أندريه قاضي.
فيلم تسكنه أهازيج الروح
يعزف الفيلم على أوتار الروح ويرسم عالما أوتوبيا ساحرا تسكنه أهازيج ’’تيتا مونة‘‘ وقصصها وشخصيتها الدافئة والحنونة، ’’فيها الكثير من صفات عمّاتي‘‘ تقول المخرجة الشابة، ولعبت دورها الفنانة الدمشقية المقيمة في مونتريال إلسا مارديروسيان. وقد رسمتها ماريا ظريف على شكل منزل، لأن الجدة مونة تجسد فعلا دفء منزل الكرم الحلبي. هذا وتحرص هذه الاخيرة عند ترك منزلها على حمل كل الأطايب والأكلات الحلبية في دلالة على تأبط المهاجر السوري حضارته وثقافته أنى ذهب.
يجسد الأداء الصوتي لشخصية درويش جد دنيا الممثل الكندي المصري مانويل تادروس الذي واجه صعوبة في تطويع لكنته المصرية للهجة المحكية الحلبية الصرف. منها على سبيل المثال كلمة ’’وبا‘‘ التي تستخدم للتأفف أو ’’إشو‘‘ أي ’’ما هذا‘‘.
تجدر الإشارة إلى أن أن الفيلم بنسخته الأصلية الفرنسية تضافرت فيه كل تفاصيل عاصمة الشمال السوري الضاربة في القدم والتاريخ وكان لا بد من قبيل الحفاظ على هويته تطعيم حوارات الشخصيات باللكنة الحلبية.
’’كان تعاون الفنان القدير استثنائيا وتميز فعلا في تقمص شخصية الجد السوري الحلبي واستطاع أن يعطي الشخصية البعدين، خفة الظل والعمق،‘‘ تقول ظريف.
علّم درويش حفيدته أن الحياة أوسع مما تتخيّل، علمها أن البيوت والأوطان تسكن في الأرواح […] درّبها على أن تسير منتصبة القامة شامخة الرأس محتفظة بهويتها وكرامتها.
تقول المتحدثة ’’إن درويش المتأثر بالفلسفة الصوفية، يجسد الروح الحلبية بامتياز، ولا يقتصر دوره على رسم الحس الوجودي في قلب حفيدته فحسب بل أيضا على تهذيب الحس الموسيقي والحس المعرفي عن تاريخ الشهباء التي تعايشت فيها الأديان والحضارات بانسجام وانصهار.‘‘
’’دنيا مهمومة على ابن الجيران الذي تركته وراءها يواجه أهوال الزلزال المدمر‘‘
صحيح أن دنيا أصبحت لاجئة في وطن جديد وأصبحت تتمتع بحقوق وحياة جديدة، ولكن ذلك لا يعني أن جرحها قد اندمل[…] كذلك انكسرت أشياء كثيرة في قلب جديها اللذين تركا قسرا وطنهما وهما في مقتبل العمر.
نقلا عن ماريا ظريف، سينمائية ورسامة
تنقل المتحدثة شعور دنيا بالذنب اليوم لـ ’’أنها تركت وراءها صديقها سامي وحده في مواجهة مصير غاشم بعد الزلزال الذي ضرب حلب مؤخرا‘‘. تفكر بما قد يكون حلّ برفيق الطفولة ’’الذي لم يستطع اللحاق برحلة اللجوء الشاقة والصعبة لأن لا مال لديه، حتى لعلاج أمه المريضة أو توفير مازوت التدفئة من برد شتاء حلب القارس أو إيجاد الكسوة والغذاء …هل بقي سامي في حلب أم ذهب إلى إدلب أو عنتاب أو أنطاكية… وإن نجا من الزلزال فهل سينجو من الموت الذي يلحق به في كل مكان؟‘‘ كما تسرد ظريف.
تقتضي الضرورة أن نقول للجمهور الكندي والعالمي إن استقباله للاجئ لا يعني مطلقا أن حكايته انتهت وانقطع الحبل بينه وبين ماضيه. على العكس، فإن الجراح لا زالت تنزف ولم ولن ينقطع الوصال مع البلد الأم.
نقلا عن ماريا ظريف، مخرجة فيلم الأنيميشن (فيلم تحريك) ’’دنيا وأميرة حلب‘‘
’’كنتُ عصي الدمع قبل مشاهدة الفيلم‘‘
واكبت السينمائية العرض الأول لفيلمها في باريس العاصمة الفرنسية نهاية الشهر المنصرم وأكثر ما لفتها تعليقان للجمهور.
’’قال لي مُشاهد سينغالي ناهز الثمانين من العمر: ليباركَكِ الرب، لامسا أوجه تقارب كثيرة بين مسيرته ومسيرة دنيا وكأن الفيلم يسرد قصته.‘‘
’’التعليق الثاني، تتابع السينمائية، أتى على لسان فرنسي حلبي الذي أمضى 12 سنة في الحزن والأسى محاولا القيام بأي شيء يساعده على إفراغ غضبه ولكن دمعه كان عصياًً. وهو استطاع اليوم فقط البكاء وإخراج كل شحنات الغضب والاحتقان التي تعيث في داخله.‘‘
انتهت ماريا ظريف لتوها من الدبلجة العربية لفيلمها في دمشق كما تعد حاليا لإطلاق حلقات تلفزيونية جديدة لمسيرة دينا في كندا.
لو قدر لي أن أتابع في تفاصيل حكاية دنيا، فهي عندما تكبر ستكون قائدة أوركسترا، ستستضيف موسيقيين عالميين في فرقتها وستكتب معهم نغما جديدا سيغير وجه العالم.
نقلا عن ماريا ظريف، كتبت وأدت كل أغنيات فيلمها