لمناسبة ’’اليوم الوطني للحقيقة والمصالحة‘‘ في 30 سبتمبر، الذي كرّس لأول مرة العام الماضي يوم عطلة رسمية فدرالية تضامناً مع ضحايا المدارس الداخلية من سكان كندا الأصليين، أقيم الأحد الماضي قداس في كنيسة ’’سان فرانسيس كزافييه‘‘ (St-Francis Xavier) التي شيّد فيها مزار القديسة كاتيري تيكاكويثا (Kateri Tekakwitha) في محمية ’’كناواكي‘‘ (Kahnawake) للسكان الأصليين جنوب مونتريال.
’’لا، إنها ليست عطلة ولا يوم احتفال على الإطلاق بالنسبة لنا، وإنما هو يوم رمزي مخصص ليتذكّر الجميع ما حصل في كندا للأطفال في المدارس الداخلية للسكان الأصليين. جملة مشاعر تجتاحنا ونحن نقيم الذكرى ونرفع الصلوات.‘‘
كان هذا لسان حال من التقيتهم ممن شارك في القداس الأحد الماضي من أبناء قبيلة الـ ’’موهوك‘‘ (Mohawk) وهي واحدة من خمس قبائل على الأقل تنتمي إلى أمة الإيروكوا (Iroquois) من الأمم الأول في كندا.
لماذا القميص البرتقالي؟
تلفت انتباهك في الباحة الخارجية للكنيسة وعلى جدرانها ومذبحها في الداخل ملصقات باللون البرتقالي كتب عليها: ’’كل طفل مهم‘‘. كذلك عندما تدخل إلى قاعة الكنيسة تشاهد عددا من الناس يرتدون قمصانا برتقالية كتب عليها ’’Every Child Matters‘‘، حتى أن الكاهن الكندي الهايتي فينسان اسبرّي الذي ترأس القداس، ارتدى ’’بطرشيل‘‘ برتقالي اللون مكتوب عليه العبارة ذاتها.
تأتي الفكرة وراء القمصان البرتقالية من فيليس ويبستاد التي تنتمي إلى شعوب الأمم الأول. تقص هذه الأخيرة في حديث إلى القسم الإنجليزي (نافذة جديدة) لهيئة الإذاعة الكندية بأنها حضرت يومها الأول في مدرسة داخلية عام 1973، وكانت متحمسة لارتداء قميص برتقالي جديد مشرق أعطته لها جدتها. لكنها عندما وصلت إلى المدرسة، جُردت من ملابسها وقُصّ شعرها، كما تم نزع قميصها الجديد ولم تسترده أبدًا.
ترأس ويبستاد التي تعيش في بريتيش كولومبيا ’’جمعية القمصان البرتقالية‘‘ التي تشجع الكنديين على ارتداء اللون البرتقالي في ’’اليوم الوطني للحقيقة والمصالحة‘‘ تذكيرا بأن ’’كل طفل مهم‘‘ وتضامنا مع الناجين من سكان كندا الأصليين من المدارس الداخلية الذين تعرّضوا لسوء معاملة وأمراض وتحرّش جنسي وظروف عيش مزرية.
يذكر أن كندا أرست أواخر القرن التاسع عشر نظام المدارس الداخليّة الإلزاميّة لأبناء السكّان الأصليّين، لإبعادهم عن ذويهم وإدماجهم في ثقافة البيض. وتمّ انتزاع نحو من 150 ألف طفل من ذويهم، وإدخالهم في مدارس موزّعة في سائر أنحاء البلاد. وقد اكتشفت في مايو 2021 مئات القبور والرفات لأشخاص مجهولي الهوية في مواقع المدارس الداخلية سابقا في مقاطعتي بريتيش كولومبيا وساسكاتشوان في غرب البلاد.
تعويذة من نوع خاص لاستدعاء قوى خارقة
نحن بحاجة إلى أن نلتقي فيما بيننا ونضمد الجراح[…] التعافي يلزمه وقت طويل ولن تندمل الجروح إلا بعد أن يدرك كل كندي مدى السوء الذي لحق بالسكان الأصليين عبر تاريخهم.
نقلا عن كريستين، من قبيلة الموهوك في محمية كناواكي في جنوب مونتريال
يقدم الناشط توم ديرهاوس الدعم النفسي والروحي للناجين من المدارس الداخلية ويضطلع بمهمة الحفاظ على تراث شعوب الموهوك عبر إصدار مجلة دورية. يقول المتحدث إنه شارك كمرجعية ثقافية في أعمال ’’لجنة الحقيقة والمصالحة‘‘ الفيدرالية. علما أن هذه اللجنة أنشئت عام 2007 للتحقيق في نظام المدارس الداخليّة الإلزاميّة لأولاد السكّان الأصليين والخلاسيّين.
التقيت ديرهاوس بعد القداس بصفته عضو بارز في ’’مركز كاتيري‘‘ (Centre Kateri) التابع لكنيسة سان فرانسيس كزافييه.
يشير هذا الناشط إلى أن عدد أبناء قبيلة الموهوك الذين يعيشون في محمية كناواكي وضواحيها يبلغ نحو 9000 شخص علما أن عدد شعوب الموهوك في أميركا الشمالية يبلغ اليوم أكثر من 000 20 نسمة، ويوجد قسم كبير منهم في مقاطعة أونتاريو.
حزم توم حقيبة كانت وضعت محتوياتها، من رماد وريش نسر وجلود حيوانات، على الأرض أمام مذبح الكنيسة خلال القداس، أشبه بتعويذة تحمل رموزا خاصة بمعتقدات السكان الأصليين ولها تأثير سحري لجهة طرد الأرواح الشريرة وتطهير النفوس.
يشرح المتحدث أن الرماد الموضوع في وعاء هو بمثابة دواء وغذاء روحي، يرفعه اليوم أيضا لراحة نفس من مات من الأطفال في المدارس الداخلية.
أحرق توم خليطا من عشب وأزهار برية وعصير تفاح وتبغ وحوله إلى ’’رماد مقدس‘‘. وليس اصطحابه لهذا الرماد إلا لـ ’’تنظيف أذهان المؤمنين وتصفية قلوبهم وتنقية آذانهم وحناجرهم وحواسهم كلها وتطهيرها من كل إثم‘‘.
أما عن ريش النسر الذي وضع أيضا أمام مذبح الكنيسة، فيقول توم ’’إن ريش النسر له دلالات ورموز في ثقافة الأمم الأول، نعتبره مقدسًا لأنه يحلق بعيدا في السماء بالقرب من الخالق. إنه يرمز إلى الاحترام والشرف والقوة والشجاعة والحكمة، وهو جزء من الطبيعة التي هي بالنسبة لنا مادة حية ترشد العالم.‘‘
أما عن صائد الأحلام (Dreamcatcher) في جملة الرموز الموجودة داخل الكنيسة، فيشرح ديرهاوس: ’’هي حرفة يدوية تتكون من طوق، عادة ما يكون مصنوعًا من الصفصاف وتتدلى منه شبكة من الخيوط. وفقًا للاعتقاد السائد، فإن صائد الأحلام يمنع الأحلام السيئة ويلتقط منها ما ترسله الأرواح، يحافظ على الصور الجميلة ويحرق الرؤى السيئة.‘‘
يعتبر المتحدث أن ’’اليوم الوطني للحقيقة والمصالحة‘‘ ’’رمزي أكثر من أي شيء آخر، وقد كانت الحكومة الاتحادية مجبرة على تكريسه. يمكن تسميته يوم الذكرى أو يوم التكريم للسكان الأصليين. ولكن في كل الأحوال، يشكل هذا التكريس والاعتبار لوجود الأمم الأول فخرا وشرفا للعديد من أبنائنا.‘‘
شغف بسيرة حياة ’’زنبقة الموهوك‘‘ يقلب حياة الكندي المصري الأرمني غبريال بربريان رأسا على عقب
في 21 تشرين الأول / أكتوبر 2012 أعلن البابا بنديكتوس السادس عشر قداسة كاتيري تيكاكويثا واسمها في العماد المسيحي ’’كاترين‘‘، لتصبح أول مواطنة من السكان الأصليين في قارة أمريكا الشمالية يتم تقديسها من قبل الكنيسة الكاثوليكية. منذ ذلك الحين بدأ غبريال بربريان يتردد على مزارها داخل كنيسة سان فرانسيس كزافييه ليجد نفسه شغوفا بالحكايات عنها. وقد قرأها في الأرشيف الذي تركته الإرساليات المسيحية في كناواكي، على رأسها الآباء اليسوعيون الذين آمنت كاتيري على يدهم بالمسيح واعتنقت الديانة المسيحية. ساهم اليسوعيون في افتتاح مدارس ومستوصفات ومستشفيات وكنائس مخصصة للسكان الأصليين.
يعمل بربريان منذ نحو 10 سنوات في ’’مركز كاتيري‘‘، يعد ويحرر ويطبع مجلة تبشيرية مسيحية تصدر 3 مرات في السنة. يتولى أيضا إدارة ’’متحف كاتيري‘‘ كما أنه مسؤول عن الأرشيف الذي يشتمل على 10 آلاف مخطوطة ووثيقة كتبها الآباء اليسوعيون عن علاقتهم بالسكان الأصليين وفي شكل خاص شعوب الموهوك الذين كانوا يقطنون قبالة نهر سان لوران في المنطقة التي تقع فيها حاليا محمية كناواكي.
ينقل المتحدث أن الآباء اليسوعيين الذين أتوا إلى كندا منتصف القرن السابع عشر تعلموا لغة السكان الأصليين وترجموا القداس والصلوات والترانيم إلى لغات الأمم الأول. وقد تعلّم بدوره الأب فينسان اسبرّي الذي قدم من هايتي قبل عشر سنوات ليخدم رعية كنيسة سان فرانسيس كزافييه لغة الموهوك وهو يتوجه إليهم خلال القداس بلغتهم بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية.
في سياق آخر، يؤكد بربريان أنه يلتبس عليه موضوع المصالحة لأنه يعتبر ’’أن تحقيق المصالحة يفترض تبادلا بين الجهتين المتخاصمتين، يطلب الطرف الأول الغفران فيقبل الطرف الثاني أن يسامح أو لا يقبل، كما يفترض أيضا تصحيح الأخطاء. فكيف يمكن تصحيح الأخطاء وقد مات غالبية الضحايا منذ زمن بعيد؟ إنه تعويض مالي يسدده الطرف المعتدي على الطرف المعتدى عليه ولكن هنا السؤال أيضا: هل هذا التعويض المادي نابع من القلب؟‘‘
مضى على وجودي بين أبناء قبيلة الموهوك عشر سنوات وإنني حتى هذه اللحظة يساورني الشعور بأنني لا أعرفهم جيدا. إن ما نتشارك به معا هو حبنا للسيد المسيح، هذا كل شيء. إنها تجربة يصعب علي وصفها، خصوصا أنهم دائما على مسافة منك وليس من السهل مقاربتهم.
نقلا عن غبريال بربريان، كندي مصري يعمل في مركز كاتيري
يقول المتحدث إن المخطوطات التي تركتها الإرساليات المسيحية تصف قبائل الموهوك بأنهم الأقسى بالمقارنة مع غيرهم من شعوب الأمم الأول وهم محاربون في شكل خاص يدافعون عن وجودهم بشراسة.
يسرد بربريان حادثة نبش قبر أحد الكهنة اليسوعيين في مارس الماضي في الباحة الخارجية للكنيسة وإخراج جثته ونقلها إلى مكان آخر. أتى ذلك بعدما صوت موهوك كناواكي لصالح إخراج رفات الأب ليون لاجوا (نافذة جديدة) (Léon Lajoie) الذي يُزعم أنه ارتكب اعتداءات جنسية. وكان خدم هذا الكاهن رعية كناواكي بين عامي 1961 و 1990.
(المصدر: هيئة الإذاعة الكندية، بي بي سي، الموسوعة الكندية)