أعادت تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مخاطر استخدام السلاح النووي إلى الواجهة. ما مدى قدرة أوروبا على مواجهة أي هجوم محتمل بأسلحة نووية؟ وهل يحظى الناتو بالحماية في حال تعرضه لمثل هذا الهجوم؟
في خطابه المتلفز يوم الأربعاء الماضي الواقع في 28 سبتمبر/ أيلول 2022، وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلامه للشعب الروسي، قائلا: “أود أن أذكركم بأن بلادنا لديها أيضا وسائل تدمير مختلفة، وبعض المكونات أكثر حداثة من تلك الموجودة في دول الناتو”. وأضاف “إذا تعرضت وحدة أراضينا للتهديد، سنستخدم كل الوسائل المتاحة لحماية روسيا وشعبنا، هذا ليس خداعا. أولئك الذين يحاولون ابتزازنا بالأسلحة النووية يتعين أن يعرفوا أن الرياح يمكن أن تتحول ضدهم”.
وفي رده على هذا، أشار الكولونيل المتقاعد في الجيش الألماني فولفجانج ريختر إلى أنه منذ بداية الحرب، “سمعنا بشكل متكرر مثل هذه التحذيرات التي يمكن تفسيرها على أنها تهديد باستخدام الأسلحة النووية”. وفي مقابلة مع DW، قال ريختر بأن “الهدف من وراء هذه التهديدات بعث رسالة إلى الدول الغربية مفادها: إذا تدخلتم في الحرب أو هاجمتم أراض روسية، فمن المرجح كثيرا شن هجوم نووي”.
وأضاف ريختر، الباحث البارز في شؤون الأمن الدولي في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن العقيدة الروسية تشير إلى حالتين فقط تجيزان استخدام السلاح النووي، قائلا: “الحالة الأولى تتمثل في تعرض روسيا نفسها لهجوم بالأسلحة النووية أو بأسلحة دمار شامل أخرى، أما في الحالة الثانية فيجوز استخدام هذا السلاح عندما يكون وجود الدولة الروسية وبقائها على المحك”. وقال الباحث إنه لا يوجد أساس في القانون الدولي يؤكد الزعم بأن الدفاع عن روسيا يشمل نشر أسلحة نووية للدفاع عن الأراضي التي تقول موسكو أنها تحتلها داخل أوكرانيا.
قاعدة بوشل الجوية الألمانية حيث تتمركز طائرات من طراز “تورنادو” قادرة على حمل قنابل نووية
سيكولوجية الردع
وبدت نبرة روز غوتيمولر، النائبة السابقة للأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أقل تفاؤلا. ففي مقابلة مع “بي بي سي”، قالت إنه يصعب التكهن بما قد يُقدم عليه الروس، مضيفة: “قد تشمل (تحركاتهم) استخدام أسلحة الدمار الشامل”. وتمتلك روسيا أكثر من 6300 رأس حربي تمثل أكبر ترسانة نووية في العالم، فيما تعد الولايات المتحدة أكبر قوة نووية داخل حلف الناتو بحوالي 5800 رأس نووي. ويعتقد أن فرنسا تمتلك 300 رأس حربي والمملكة المتحدة قرابة 215 رأسا، فيما يكتنف الأمر الكثير من الغموض حيث تحافظ الدول النووية على السرية التامة عندما يتعلق الأمر بترسانتها النووية. يشار إلى دول أوروبية تحظى بما يُعرف بـ “مظلة الولايات المتحدة النووية” التي تقوم على افتراض بان أي عدو لن يجرؤ على مهاجمة دول الناتو بأسلحة نووية لأنه يتعين عليه توقع هجوم نووي مضاد. لكن بدون هذه المظلة، فلن تتمكن دول أوروبية من صد أي هجوم نووي عسكري.
وفي ذلك، تمتلك الدول النووية داخل حلف الناتو أنواعا مختلفة من الردع إذ تعتمد فرنسا وبريطانيا على ما يُطلق عليه “الحد الأدنى من الردع” حيث لا تفترض الدولتان تبادلا لضربات نووية خلال أيام، لكنهما تعتقدان بأنهما قادرتان على الردع أو حتى وقف أي هجوم نووي عن طريق “إطلاق طلقة تحذيرية فرنسية على أساس أنها ستكون كافية”. في المقابل، يعتقد خبراء عسكريون أمريكيون إمكانية نشوب “حرب نووية محددة” حتى من الناحية النظرية ما يتطلب الاحتفاظ بأسلحة ذات قدرة تفجيرية منخفضة. ويؤكد الخبراء على أن أي استخدام لسلاح نووي يعد انتهاكا للقانون الدولي، لكن من الناحية النظرية، ثمة استثناءات كشن هجوم نووي محدود على سفينة حربية في عرض البحر.
طائرة مقاتلة ألمانية من طراز “تورنادو” خلال التدريب على استخدام السلاح النووي
ماذا عن الردع الألماني؟
وفيما يتعلق بمساهمة ألمانيا في قدرات الردع النووي الأوروبية، فيشمل ذلك المقاتلات من طراز “تورنادو” والمتمركزة في قاعدة “بوشل” الجوية في ولاية راينلاند بفالس إذ تنص حالة الطوارئ على شن هجوم عن طريق المقاتلات المحملة بأسلحة نووية أمريكية وعلى متنها أطقم ألمانية. يشار إلى أنه يُجرى تدريب الطيارين الألمان على إسقاط دمى كقنبلة نووية أمريكية مرة واحدة على الأقل كل عام. كذلك تشترك هولندا وبلجيكا وإيطاليا فيما يُعرف بـ “ترتيبات المشاركة النووية” التي أبرمتها الولايات المتحدة مع بعض دول في حلف الناتو إذ يقال أن لدى الولايات المتحدة حوالي 150 قنبلة نووية موجودة في خمس دول ضمن الناتو.
وفي ذلك، قال بيتر رودولف، الخبير في الشؤون السياسية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن هذه القنابل “بقايا لحقبة ماضية ما يعني أن أهميتها العسكرية باتت ضئيلة في الوقت الحالي. ومن أجل استخدامها، يتعين القضاء في بادي الأمر على دفاعات العدو الجوية ما يتطلب الانخراط في حرب كبيرة”.
فرنسا تكشف عن غواصة “سوفران” الجديدة التي تعد أول غواصات هجومية نووية من الجيل الجديد
ترتيبات المشاركة النووية؟
من جانبه، اكد المستشار أولاف شولتش على أن مساهمة ألمانيا في الردع النووي ليست قضية مطروحة للنقاش رغم أن مفهوم “المشاركة النووية” قد أثار انتقادات داخل الائتلاف الحاكم. وبهذا الخصوص أعلنت وزيرة الدفاع كريستين لامبرخت الاثنين الماضي أن ألمانيا ستستبدل بعض مقاتلاتها القديمة من طراز “تورنادو” بمقاتلات أمريكية الصنع من طراز “إف -35 ” القادرة على حمل أسلحة نووية. وتزايدت التوقعات بقرب إتمام هذه الصفقة في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويرى مراقبون أن “المشاركة النووية” يُنظر إليها باعتبارها تحمل في طياتها “رمزا سياسيا” وكان لها أهمية أكبر بالنسبة لألمانيا إبان الحرب الباردة مقارنة بالوقت الراهن. فخلال حقبة حلف وارسو، كانت ألمانيا في قلب أي صراع مسلح قد ينشب مع حلف الناتو، لكن “المشاركة النووية” اتاحت الفرصة للحكومة الألمانية في بون لممارسة تأثير ولو بشكل محدود على الاستراتيجية النووية للتحالف.
من يصدر قرار استخدام السلاح النووي؟
الرئيس الأمريكي هو وحده المخول بإصدار قرار استخدام الولايات المتحدة أسلحة نووية موجودة في ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا فيما يتعين على هذه الدول الموافقة على إلقاء القنابل بواسطة مقاتلاتها، لكن قبل ذلك يتعين مشاورة أعضاء حلف الناتو الآخرين داخل “مجلس شمال الأطلسي” الذي يعد أعلى هيئة منوط بها في اتخاذ القرار السياسي في الحلف.
وفي فرنسا، فإن الرئيس هو المسؤول الوحيد الذي يقع على عاتقه اتخاذ قرار باستخدام السلاح النووي وكذلك في بريطانيا فإن القرار يصدره فقط رئيس الوزراء فيما تعد المراكز الثلاثة لاتخاذ القرار بشأن السلاح النووي عنصرا هاما للردع في أوروبا، لأن من شأنها دفع أي عدو إلى التفكير مجددا في كيف سيكون رد فعل الناتو قبل قيامه بشن أي هجوم نووي.
الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا
يشار إلى أن تهديد روسيا باستخدام أسلحة نووية تكتيكية في ساحات المعارك ليس بالجديد خاصة وان روسيا تمتلك مثل هذه الأسلحة المشابهة لما تمتلكه الولايات المتحدة. وفي ذلك، قال الخبير في الشؤون السياسية، بيتر رودولف، “بادئ ذي بدء فإن التهديدات الروسية باستخدام السلاح النووي ذات وظيفة سياسية. إنها تعد رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها عدم التدخل في أوكرانيا بما يتجاوز حدا بعينه”.
الجدير بالذكر أنه منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، هدد الرئيس الروسي مرات عدة باستخدام الأسلحة النووية، خاصة الأسلحة النووية التكتيكية ذات القوة التفجيرية المنخفضة. ويمكن حساب القوة التفجيرية لمثل هذه الأسلحة بأنها تعادل واحد من خمسين القوة التفجيرية للقنبلة الذرية التي دمرت هيروشيما عام 1945.
تمتلك روسيا خيارات وسائل عدة لاستخدام السلاح النووي منها صاروخ كروز القادر على حمل رؤوس نووية
لكن الكولونيل ريختر يقلل من إمكانية قيام روسيا بتوجيه ضربة نووية، مضيفا “إذا قامت روسيا بكسر المحرمات النووية القائمة منذ عام 1945، فإنها ستصبح في هذه الحالة دولة معزولة ومنبوذة في جميع أنحاء العالم فيما سيفقد بوتين جميع حلفائه بما في ذلك الصين.” وقال إن الأمر لن يتوقف على ذلك فحسب بل سينجم عن أي هجوم نووي قد يشنه بوتين “عواقب لا حصر لها تتعلق ببقاء الاتحاد الروسي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا”.
ويشير ريختر إلى أن نشوب حرب نووية مع الناتو يعد أمرا غير مرجح الحدوث، مضيفا “لن تستطيع روسيا تحقيق أي فوز بعد كل ذلك إذ أن (اي هجوم نووي) سيؤدي إلى تبادل التدمير. وأعتقد أنه ما زالت هناك أصوات عقلانية داخل الكرملين”. يشار إلى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد وجّه تحذيرا لنظيره الروسي من استخدام أسلحة كيميائية أو نووية تكتيكية حيث قال بايدن في مقابلة أجرتها معه شبكة سي بي إس: “لا تفعل. لا تفعل. لا تفعل. ستغيّر وجه الحرب بشكل لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية”