لا ينضُب معين الفنانة لميا يارد وتستقي دوما الإلهام والابتكار من جذورها الشرقية الضاربة في عمق التاريخ. هذه المرة تُحيي تراث أحد من أضاءوا صفحات تاريخ الموسيقى العربية ابن العراق صفي الدين عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر الأرموي (613 هـ/1216 م – 693 هـ/1294م). واختارت يارد ’’أرموي‘‘ (Urmawi) اسما لفرقتها الموسيقية الجديدة تيمنا بابن بغداد. وهل أجدر من اسمه لاستعادة حقبة ذهبية عاشتها الموشحات قبل أكثر من ألف عام في الأندلس، وموسيقى التصنيف الفارسية الكردية القديمة التي تعد بمثابة أم المقامات الشرقية؟
التصنيف هو مقام معروف في الموسيقى الفارسية أما الموشح فهو نوع من الغناء الجماعى نشأ إبان الحكم العربي لبلاد الأندلس، أسبانيا حاليا، من هنا تسمية ’’الموشحات الأندلسية‘‘.
عاشقة الاكتشافات الموسيقية التي لا تنفك عن الإبحار والسفر من مقر إقامتها في مونتريال إلى أصقاع الدنيا، لميا يارد، تقرّب بالموسيقى كل شعوب الأرض ’’في أكثر مكان يمكن فيه لحضارات وثقافات العالم أن تتمازج وتتزاوج وتنصهر بانسجام وتناغم ووئام، وهو مدينة مونتريال.‘‘
بعد صياغة البوم ’’الأضواء العثمانية‘‘ العام الماضي، وتقديم التراث الموسيقي السفاردي والتركي واليوناني المتأثر بالثقافة العثمانية، تتوجه يارد اليوم إلى بلاد فارس وتأثيرها في موسيقى الشرق. وتستعد لتقديم حفل موسيقي يتضمن موسيقى وأغنيات باللغتين الفارسية والعربية على مسرح Chapelle Notre-Dame-de-Bon-Secours في وسط مدينة مونتريال السابعة والنصف مساء السبت 11 آذار / مارس المقبل.
تنطوي الموسيقى الفارسية على روح الشرق الساحرة الباهرة. وتوجد قواسم مشتركة بينها وبين الموسيقى العربية، بينها تسميات عدد كبير من المقامات والسلم الموسيقي، كما أن الذائقة والأذن الموسيقية واحدة عند شعوب بلاد فارس وبلاد المشرق، كما وجدت لميا يارد.
تتداخل في الموسيقى الإيرانية التقليدية الكثير من الروافد لثقافات وحضارات أخرى، وهي انبثقت من تعايش الأقوام المختلفة في بلاد فارس القديمة، من كلدانيين وآشوريين وعبرانيين وبابليين وغيرهم.
يجد عازف القانون في فرقة ’’أرموي‘‘ نزار طبشراني أن آلة السنتور الفارسية تشبه القانون الشرقي مع اختلافات طفيفة. هناك أيضا آلة الكمانجه الفارسية وبالكردية (kemançe) التي تشبه بالشكل آلة الربابة ولكنها تفوقها في وسع الصوت ومداه وتتميز عنها بأن لها ثلاثة أوتار.
يرى المتحدث المتخصص في الموسيقى أن الموسيقى التقليدية الإيرانية ’’تقدّم للسامع انطباعات لا تشبه الانطباع الحاصل من سماع أغنية، وإنما ترفع المزاج الجمالي إلى نواح ومقامات عالية، لا تخلو من خليط ساحر من الوجد والحزن الجميل والحنين إلى شيء ما مبهم أو مرمّز.‘‘ كذلك تقول يارد إنها تعشق الموسيقى القديمة وهي تسكنها، وهي تؤمن بأن النوستالجيا الموسيقية لديها لا تنحصر بالموسيقى الشرقية في بلدها الأم لبنان، وإنما تتعداها إلى الغرث الموسيقي في المنطقة بأسرها.
تأثرت الموسيقى الفارسيّة بموسيقات حضارات غيرها وأثَّرت على الموسيقى العربية، واشتُهر في بلاد العرب موسيقيون فرس وعلماء موسيقى كالفارابي وابن سينا. تتوغل لميا يارد في حقبة الإمبراطورية الفارسية الثانية التي عرفت باسم الإمبراطورية الساسانية وشهدت فيها الموسيقى الفارسية ازدهارا خصوصا أنها كانت تُستخدم في الطقوس الدينية الزرادشتية.
الموسيقي يرتحل مع الأنغام ويستوطن فعلا في تلك الحضارات ويستقي منها ألحانا عذبة، لا يشوّه النوتة والأصالة لأنه يعتنقها، يتجذر فيها ويُعمق الانتماء إليها.
نقلا عن لميا يارد، فنانة وباحثة موسيقية
ترفض لميا يارد أن تتقيد ببيئة وحضارة ولغة وثقافة بعينها طالما أن العالم كله متاح لها. ’’لماذا يقتصر أدائي على الموشح الشرقي مثلا في الوقت الذي تسمح لي فيه الفسيفساء الاثنية الموجودة في كندا بإحداث التزاوج والتمازج والانصهار والذوبان في ترددات نغمية مبتكرة وسبّاقة؟‘‘.
يسهل اندماج المتحدثة بالهوية الموسيقية بالعموم وسرعان ما تتبنى الثقافة التي أنجبتها، تَمُسّها موسيقات الحضارات الأخرى بالعمق وتعثر يارد في داخلها على أشياء مشتركة مع تلك الثقافات.
تفهم المتحدثة جيدا لتُفهِم بدورها وهي مستمعة جيدة كما أنها تؤثر التمرين المعمق لتتمكن من النوتة ومن اللغة سيما وأنها تغني بالفارسية في هذا العرض كما غنت في الماضي بالعبرية واليونانية والإسبانية والتركية بالاضافة إلى الانكليزية والفرنسية والعربية.
أُلقب بالسندباد بسبب الأسفار الافتراضية طبعا التي أقوم بها وأجوب كل أرجاء العالم واعتنق كافة الحضارات والثقافات واللغات والنغمات.
نقلا عن لميا يارد، فنانة وباحثة موسيقية
من جهته، يُثمن نزار طبشراني التجربة الفنية الغنية غير المسبوقة في مونتريال على هذا المستوى، إذ تشكل فرقة ’’أرموي‘‘ تختا شرقيا عربيا وفارسيا إيرانيا في آن معا، وتسافر الأنغام من التصنيف إلى الموشح في توزيع أوركسترالي سبّاق وقعه الفنان الكندي الإيراني الكردي شُوان تافاكول (Showan Tavakol).
’’هناك اندماج وانصهار بين الآلات فيما بينها وقد يكون هناك عزف منفرد على القانون وآخر على السنتور ولكن هناك أيضا عزف ثنائي مشترك بين الآلتين غاية في الروعة والجمال‘‘، كما يصف طبشراني.
قد يحدث تشويه موسيقي في حال لم نكن متمكنين من أدواتنا ولكن الممارسة والخبرة شكلتا لنا الوعي، من هنا ارتقاء الموسيقى وتميزها.
نقلا عن نزار طبشراني، عازف قانون
يجد طبشراني أن الموسيقى تلامس النفس مباشرة من دون وسيط. ويتذكر تعاونه مرة مع عازف على آلة السيتار الهندية الشبيهة بالعود حيث لم تكن هناك أي لغة مشتركة بينهما، لكنهما استطاعا التفاهم عبر لغة الموسيقى العالمية وقدما لحنا وعزفا مشتركا كان غاية في الإبداع. ’’حتى أنني قمت فيما بعد بكتابة لحن لآلة السيتار‘‘، يقول طبشراني.
في هذا الإطار يقول أفلاطون: ’’كنا نعرفُ كلّ شيءٍ في عالم المعقول، وجئنا إلى عالم المحسوس ونحن لا نفعل شيئاً إلا تذكّر ما كنا نعرفه. لعلّنا كنا نعرف كلّ هذه الألحان سابقا.‘‘