بعد عام من مأزق سياسي انعكس عنفا دمويا وتوترا متواصلا، خطى العراق خطوة أولى نحو الخروج من الأزمة، مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتكليف رئيس جديد للحكومة وافد من الطبقة السياسية التقليدية. لكن تحديات لا تزال بالانتظار.
نجح البرلمان العراقي الخميس (13 تشرين الأول/أكتوبر 2022) بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، هو الوزير السابق عبد اللطيف رشيد.
وسرعان ما كلّف رشيد رئيساً جديداً للحكومة، هو محمد شياع السوداني، في خطوة وضعت حداً لشلل مؤسساتي دام عاماً، مع فشل القوى السياسية الكبرى على الاتفاق منذ الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/أكتوبر 2021.
مع ذلك، فإنّ مهمة تشكيل الحكومة في بلد متعدد الطوائف والعرقيات وتقوم فيه الحياة السياسية على مفاوضات لا تنتهي بين القوى المهيمنة على المشهد، تبدو صعبةً، وقد تعود الخلافات من جديد إلى الواجهة.
المأزق “سيعود” بحلة جديدة
يقول ريناد منصور الباحث في معهد “شاتام هاوس” إنه “حينما ستبدأ المحادثات بشأن من سيكون وزيراً، ومن له اليد الأعلى في الوظائف العليا، والمؤسسات الحكومية وخزينة الدولة، سيطفو المأزق من جديد على المشهد”. ويضيف “سنكون أمام حكومة محاصصة، تحاول فيها الأحزاب السياسية تقاسم ثروات البلاد”.
وبفضل الايرادات النفطية، حقق العراق 87 مليار دولار كاحتياطات نقدية، لكنها تقبع في البنك المركزي بانتظار حكومة جديدة وإقرار موازنة تسمح بالاستفادة من تلك الأموال، خصوصا بمشاريع بنى تحتية كبيرة يحتاج إليها العراق بعد عقود من النزاعات.
وتعهّد السوداني في كلمة له الخميس ليلاً، بتبني “إصلاحاتٍ اقتصاديةً تستهدفُ تنشيطَ قطاعاتِ الصناعةِ والزراعةِ”، مضيفاً كذلك بأنه سوف يعمل “على توفيرِ فرصِ العملِ والسكن” للشباب. وأعرب عن استعداده “التام للتعاونِ مع جميعِ القوى السياسية والمكونات المجتمعية، سواءٌ المُمثَّلةُ في مجلسِ النوابِ أو الماثلةُ في الفضاءِ الوطني”، مضيفاً “لنْ نسمحَ بالإقصاءِ والتهميشِ في سياساتِنا، فالخلافاتُ صدّعتْ مؤسساتِ الدولةِ وضيعتْ كثيراً من الفرصِ على العراقيين في التنميةِ والبناءِ والإعمار”.
“الصدر لا يزال حاضراً، ويحاول التأثير واستخدام ورقة التظاهرات للتعويض عن رأس المال السياسي الذي خسره” بخروجه من البرلمان
صمت “حذر” للصدريين
تحدّي آخر يواجه الحكومة الجديدة: موقف رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، وزعيم أحد أكبر التيارات السياسية في العراق، القادر على تعبئة عشرات الآلاف من مناصريه بتغريدة واحدة.
وسحب الصدر في حزيران/يونيو نوابه البالغ عددهم 73 نائباً من البرلمان، الذي بات يهيمن عليه الإطار التنسيقي مع 138 نائباً من أصل 329. ويضمّ الإطار خصوصاً كتلة دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي والخصم التاريخي للصدر، فضلاً عن كتلة الفتح الممثلة للحشد الشعبي الذي يضمّ فصائل موالية لإيران.
ويتساءل علي البيدر عمّا يوجد خلف “الصمت الحذر” للتيار الصدري. ويقول “واحد من الخيارات، أنه يعطي فرصة للمنظومة السياسية للقيام بخطوات معينة” أو قد يكون الصمت “ناتجاً عن عملية تسوية وترضية حصلت بين التيار الصدري والأطراف السياسية”.
وصل التوتر السياسي في البلاد إلى ذروته في البلاد في 29 آب/أغسطس، حينما قتل أكثر من 30 من مناصري الصدر في مواجهات مسلحة مع الجيش وقوات الحشد الشعبي المنضوية في أجهزة الدولة.
تتمتع إيران بنفوذ قوي في العراق
هل ربحت إيران؟
يعتبر ريناد منصور من جهته أن الوضع لا يزال “هشاً”. ويضيف “الصدر لا يزال حاضراً، ويحاول التأثير (على المشهد السياسي) واستخدام ورقة التظاهرات للتعويض عن رأس المال السياسي الذي خسره” بخروجه من البرلمان. ويشرح أن هدف الصدر يبقى “فرض انتخابات مبكرة عبر استخدام لعبة عدم الاستقرار الممنهج، كما يفعل عادةً، ليحافظ على قوته وتأثيره في المفاوضات”. لكن يضيف أن “الأخطاء” السابقة للصدر، تضعه “في موقف صعب” للتفاوض.
من جهتها، ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن التطورات التي شهدتها الساحة السياسية العراقية يوم الخميس تركت مقتدى الصدر “شخصية متضائلة”. ونقلت الصحيفة عن المحلل السياسي العراقي محمد جاسم من بغداد قوله :”أعتقد أن ما حدث اليوم (الخميس) ضربة قاصمة لمقتدى الصدر سياسيا… بانتصار الإطار التنسيقي على مقتدى الصدر، بات الطريق ممهدا تماما لهم لتشكيل الحكومة”.
كما وصف جاسم ما حدث بأنه “انتصار لإيران وانتكاسة للمصالح الأمريكية في المنطقة… الإطار التنسيقي المدعوم إيرانيا سيفعل كل ما في وسعه لمحو أي وجود أمريكي في البلد وسيضع العراقيل أمام أي تعاون اقتصادي مع الولايات المتحدة، وكله لصالح إيران”.
“مهام جسيمة” في الانتظار
يرى المحلل السياسي العراقي علي البيدر أن “مهمة تشكيل الحكومة سوف تكون سهلة” وذلك “بسبب حالة التوافق” بين القوى الموجودة في البرلمان. لكن “مهام جسيمة” تنتظر الحكومة متعلقة بـ”محاربة الفساد والقضاء على ظاهرة الفقر والسلاح المنفلت”، كما أضاف.
ففي العراق البالغ عدد سكانه 42 مليون نسمة والغني بالنفط، أربعة من كل عشرة شباب عاطلون عن العمل، ويقبع ثلث السكان في الفقر، وفق الأمم المتحدة.
ويأمل البيدر أن يكون الاهتمام المتزايد “الإقليمي والدولي بالوضع السياسي في العراق”، دافعاً يجبر “المنظومة السياسية على أن تكون أفضل من المراحل السابقة”، متحدثاً عن دور فرنسي وأمريكي وبريطاني.
في كلمتها أمام مجلس الأمن في تشرين الأول/أكتوبر، قالت ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جنين بلاسخارت إنه “في حين أن العراق ليس بأي حال من الأحوال بلداً فقيراً، فإن المصالح الخاصة والحزبية تتآمر لتحويل الموارد بعيداً عن الاستثمار المهم في التنمية الوطنية”.
وأضافت أن “النظام السياسي ومنظومة الحكم في العراق يتجاهلان احتياجات الشعب العراقي، أو حتى أسوأ من ذلك، يعملان بنشاط ضدها”، معتبرةً أن “الفساد المستشري يمثل سبباً جذرياً رئيساً للاختلال الوظيفي في العراق. وبصراحة، لا يمكن لأي زعيم أن يدّعي أنه محمي منه”.
الشرطة وقوات الأمن تستخدم الغاز المسيل للدموع لتفريق متظاهرين شباب
“طبقة سياسية منفصلة عن الشعب”
لا ينظر ريناد منصور بتفاؤل إزاء المستقبل. ويقول “الحياة العامة ستبقى على حالها. سيبقى الناس محرومون من حقوقهم الأساسية، والمياه الصالحة، ونظام صحي، وكهرباء”. ويضيف “عدد السكان سوف ينمو، ونسبة أعلى منهم سوف يتمّ تهميشها من قبل النظام”.
ويرى مراقبون أن السوداني أمامه مهمة ليست بالسهلة، وأرجعوا ذلك للمحاصصة التي وصفوها بأنها سبب كل المشاكل التي يعاني منها العراق.
وفي هذا الإطار جاء أيضا الموقف الذي عبرت عنه الأمين العام للحركة المدنية الوطنية في العراق شروق العبايجي، في تصريحات لقناة السومرية الفضائية، والتي اعتبرت خلالها أن “العملية السياسية المشوهة لن تقدم شيئا للبلاد”.
وأضافت العبايجي: “لا أمل في تغيير الواقع، والشعب العراقي عبر عن غضبه ورفضه ولكن الطبقة السياسية لا تعي ما يعانيه الشعب وهناك فجوة، فهم يعيشون في عالم منعزل عن معاناة الشعب”. وتابعت: “بعد الانتخابات الأخيرة كانت هناك محاولة لتشكيل الأغلبية السياسية لم تنجح لأن القوى السياسية متمسكة بالمحاصصة، والإطار التنسيقي يريد مشاركة التيار الصدري في الحكومة المقبلة لإعادة المحاصصة ومبدأ تقسيم الكعكة”.
خ.س/ع.ج.م (أ ف ب، د ب أ)