قصدت بالأمس ’’بستان صعب‘‘ (Verger Saab) في مدينة أوكا إلى الشمال من مونتريال راغبة في التعرف على فوائد العسل الكندي وخصائصه.
أكثر من ذلك، لقد أردت الاطلاع من صاحب المزرعة هشام صعب على مدى وفرة الموسم الحالي في قفائر النحل في بستانه وما إذا تعرّض على غرار النحّالين في مقاطعة ألبرتا في الغرب الكندي، في شكل خاص، خلال موسم الشتاء الماضي، لخسائر كبيرة في أعداد النحل، حيث فقد بعض النحالين حتى 90% من نحلهم.
ما هي أسباب الوفيات في خلايا النحل؟ ما هي السبل لحماية نحل العسل؟ وهل يتوقع قطافا وفيرا في الموسم الحالي في مستعمرات النحل التي يملكها؟
هذه الاسئلة وغيرها توجهت بها إلى هشام صعب، ولكن قبل كل ذلك، لنتعرف إلى شخصية هذا الضيف ومسيرته التي تستحق كل الثناء والتقدير.
في إجابات هذا المهاجر الطموح والمقدام، هناك ما هو أبعد من امتلاك مزرعة خضار وفاكهة وتربية نحل العسل والدواجن. هناك سرٌّ دفين سيدفع هشام صعب إلى اعتزال الهندسة التي تخصص فيها في جامعة أوتاوا وفي معهد البوليتكنيك التابع لجامعة مونتريال، ليكرس حياته كلها للعمل على توسيع أنشطة المزرعة وتطويرها.
قَدَرٌ أم نَصيْب؟
إذا كان خالد شقيق هشام وشريكه في ملكية المزرعة يهتم بالأمور الإدارية والمالية، فإن هشام يبحث في شتى السبل من أجل إضفاء بصمة خاصة وأثر يساهم في جعل المزرعة أكثر من مؤسسة تجارية ترتكز على شمولية الإنتاج وتنوع المحصول، وأبعد من مورد رزق لأكثر من عائلة يعمل أفرادها في هذه المزرعة.
يسعى هشام صعب في جعل هذا ’’الهوى‘‘ لامتلاك البساتين والحقول والأراضي على غرار الجد والوالد في بيروت، مصدر إلهام وارتقاء يساهم من خلاله في تحقيق ’’دور ومكانة تشبهه في هذه البلاد الشاسعة‘‘. كان يجب أن يجد هشام صعب هذه الطاقة ليطل منها على أحلامه وطموحاته و يستعيد ما فاته. وإذا حاولنا القراءة بين السطور سنفهم أن ما آل إليه مصير هشام كان حتميا، وكل المحطات السابقة في حياته كانت تعّد لما وصل إليه وحققه اليوم في بلاد القيقب.
حرب لبنان ستدفع بعائلة صعب إلى السفر أولا إلى فرنسا عندما كان يبلغ هشام ستة عشر ربيعاً، وبعد ثلاث سنوات هاجرت العائلة إلى كندا، لتستقر أولا في تورونتو من ثم أوتاوا وأخيرا مونتريال.
في الحقيقة كانت التجارة في جِناتي الفينيقية منذ نعومة أظفاري، فكنت أشتري الشوكولا مثلا بمصروف الجيب، الذي نلته من العمل في مخمر الموز عند والدي، لبيعه لرفاقي، مكتسباً بعض القروش التي تسمح لي بشراء منتجات وسلع أخرى أعمد بعد ذلك إلى بيعها أيضا، وهكذا دواليك […] هذا الهاجس بكسب المال لتأمين عيش أفضل والحفاظ على البقاء، كبر معي وشغلي الشاغل اليوم هو توفير كل السبل من أجل استمرارية ما بدأت به مع شقيقي عند شرائنا قبل سنوات هذه المزرعة التي تناهز مساحتها الـ 30 هكتارا.
نقلا عن هشام صعب، مهندس، اختصاصي في طب الأعشاب، رجل أعمال، مزارع ونحّال
وما نيل المطالب بالتمني…
سخّر المتحدث كل المعطيات التي تساهم في صقل كفاءته وحمل الفائدة لمجتمعه. هشام الذي لم يحالفه القدر بأن يصبح طبيبا جراحا، وجد في طب الأعشاب ملاذا لأحلامه وطموحاته، وتعويضا عما فاته في شبابه. بدأ قبل أكثر من 4 سنوات بأخذ الدروس في طب الأعشاب منتسبا إلى معهد Medicina Flora في مونتريال ولا زال أمامه 5 سنوات للمزيد من التخصص، كما يقول. وهكذا يخصص هشام وقته في موسم الشتاء للدراسة والتعليم وفي الفصول الثلاثة الأخرى يهتم بمزرعته ومواسمها مع زوجته وأولاده ووالدته وغيرهم من أفراد اسرة صعب. في بستان صعب فريز (فراولة)، توت برّي، خوخ، إجاص، عنب وتفاح وكذلك خضروات على أنواعها مع تصنيع محلي لعدد كبير من منتجات المونة المنزلية الشرقية. كما يقوم هشام صعب بإنتاج شتى أنواع الصابون ومستحضرات التجميل عن علم ودراسة، ليصبح متجره داخل المزرعة، مقصد الداني والقاصي. يؤكد العديد من الأشخاص الذين التقيتهم في المزرعة على مدار السنين التي قصدت فيها هذه المزرعة، خصوصا خلال موسم قطاف التفاح في فصل الخريف، على ’’جودة الكريمات ومستحضرات التجميل بتركيبة بيولوجية طبيعية مائة بالمائة، وكذلك جودة الصابون والعسل‘‘.
أتيحت لي أنا الطالب المتفوق فرصة من ذهب لكي أدرس الطب في مونتريال، ولكنني فوّتتها لأشعر اليوم بالندم […] ولكن ذلك لا يمنع أنني مسرور بما أعمله، وقد يكون القدر هو الذي كتب لي هذا المصير لأنه راى فيه الأفضل لي.
نقلا عن هشام صعب، صاحب ’’بستان صعب‘‘
…وتكتمل السبحة
لتكتمل السبحة في مسيرة المتحدث، كان لا بد من تربية نحل العسل. وهكذا خضع هشام صعب لدورات تنظمها وزارة الزراعة في حكومة كيبيك لتنشئة النحالين. ونشاهد شهادة بهذا الخصوص في برواز معلق على أحد جدران المتجر في المزرعة، إلى جانب شهادات عدة أخرى تُرسّخ مصداقية هذا العصامي ونزاهته وحرصه على جودة منتجات بستانه.
هناك نحو عشرين مستعمرة نحل في بستان صعب وهي في طور أن يتفرّع منها عدد مماثل، إذ سيقوم صعب بنقل نصف عدد النحل إلى قفائر أخرى، بعدما استقدم ملكة نحل جديدة من إيطاليا مؤخرا مع حراسها.
لا لم يخسر هذا النحّال نسبة كبيرة من النحل خلال موسم الشتاء الماضي، وليس الموسم الأسوأ لاستخراج العسل هذه السنة، كما يقول. ’’لقد مات عدد من النحل لا تتعدى نسبته الـ 20% في مزرعتي‘‘، قال هشام صعب.
في السنة الأولى لتربية النحل في مزرعتي، ماتوا كلهم، ولكن السبب يومها كان معروفا، وهو قلة خبرتي في هذا المجال. اشتريت نحلا جديدا ولم تمض سنة حتى عوّضت خسارتي. لا يأخذ النحل وقتا طويلا لكي ينشط بإنتاج العسل في الخلية، يساعده في ذلك وفرة الزهور والورود والنباتات البرية الموجودة في كندا.
نقلا عن هشام صعب، صاحب ’’بستان صعب‘‘
العسل الكندي ليس غالي الثمن لهذه الأسباب
المعروف عن العسل عموما هو أنه يقوي النظام المناعي لجسم الإنسان، علما أن هناك أنواعا من العسل تتميز بهذه الخاصية أكثر من غيرها، وكل ذلك متعلق بما تجمعه النحلة من رحيق خلال تنقلها من زهرة إلى أخرى في أرجاء الفضاء الفسيح.
يتوافر في كندا وبغزارة كل الغذاء الذي تحتاجه النحلة لتنتج عسلا صحيا طيب المذاق. يمتص النحل في كندا رحيق زهرة البرسيم، الذي يستخدم العسل المنتج منه لمعالجة مشاكل الكبد والتطهير من السموم. والعسل المنتج من رحيق زهرة ’’الجولدن دور‘‘ يستخدم لمشاكل متعلقة بالالتهابات البولية، ويحتوي رحيق زهرة الخزامى على خصائص مضادة للجراثيم والفطريات. والعسل المستخرج من الورود البرية يستخدم لمعالجة السعال والربو.
أما أكثر أنواع العسل المطلوبة من قبل أبناء الجاليات العربية في كندا، فهو عسل الحنطة السوداء (Sarrasin) وهي زهرة بيضاء تحتاج إلى مناخ بارد ويكثر وجودها في الحقول الكندية. رحيق هذه الزهرة البرية تنتج منه النحلة عسلا طيب المذاق، حلوه قليل يناسب كثيرا مرضى السكر.
يمتص النحل في كندا عددا لا يحصى من رحيق الأزهار المتوفرة والمنتشرة بشكل كبير وواسع، ولا تحتاج النحلة إلى الطيران لمسافة بعيدة للحصول على الرحيق الذي تحتاجه، مما يجعل سعر العسل في كندا منخفضا بالمقارنة مع سعره في اليمن مثلا. ويشرح هشام صعب بأن النحلة في اليمن تحتاج إلى السفر لمسافات بعيدة لتجد الرحيق، علما أن التربة في هذا البلد خصبة جدا والعسل اليمني مشهور بجودته. ولكن غلاء سعره يتعلق بندرة الإنتاجية لأن النحل يجد الرحيق بصعوبة. ولا يطير لدقائق فقط ليأتي من ثم بالرحيق إلى الخلية كما هي الحال في كندا.
القوانين المرعية الإجراء لتربية النحل في كندا تجعله يضاهي أجود أنواع العسل في العالم
يعرب هشام صعب عن اعتقاده بأن العسل الكندي هو من أجود أنواع العسل عالميا، أولا لأن وفرة رحيق الزهور والأعشاب البرية التي تنتجها الأرض الكندية الحلو المذاق، يغني عن إضافة السكر الاصطناعي إلى خلية النحل لإشباع أفرادها. وثانيا لأن توصيات الحكومات الكندية للمزارعين واضحة جدا، وتحت طائلة المسؤولية بشأن رش المبيدات التي تعتبر السبب الأساسي في موت النحل. يعلل المتحدث أسبابا أخرى لموت النحل غير إصابته بالعث الطفيلي كما حصل في ألبرتا. يقول هشام صعب: ’’إن النظام المناعي للنحل قد يكون ضعيفا، لأن النحال يأخذ عسلهم ويعطيهم السكر الاصطناعي الأقل جودة‘‘. يحصل ذلك في فصل الشتاء عندما يضعون النحل في برادات خاصة تشل حركتهم، ولا يخرج النحل إلى الطبيعة في كندا إلا مع بداية فصل الربيع. يقول هشام صعب إنه لا يبيع كل العسل في نهاية الخريف ولكنه يترك القليل منه للنحل المحجور في البرادات في الشتاء، مضيفا نحو 25 كيلوغراما من السكر في الخلية الواحدة، التي يعيش فيها تقريبا 10 آلاف نحلة، ليجد النحل ما يأكله.
هل سألنا النحل ماذا يحب؟
’’اقتحم البشر حياة النحل وتدخلوا في طريقة حياتهم، وتحكموا في ما يجمعونه من رحيق‘‘، يقول هشام صعب. ’’يتعاطى البشر مع النحل كمورد رزق، فهو مصدر لإنتاج العسل يعود بالفائدة على جيوبهم‘‘.
هل سألنا النحل مرة يا ترى: ماذا يريد؟ إن النحلة بريّة تحب الحرية، كما تحب اختيار نسبة الرطوبة التي تريدها ونسبة الشمس التي تريدها والفضاء والرحيق وأنواع الزهر الذي تريده. إننا ’’ندجن‘‘ النحل ولا نستمع إلى حاجاته هو وما يريده. أفلا يكون هذا سببا في أننا نخسره ويموت؟
نقلا عن هشام صعب، نحال كندي لبناني
على هذه التساؤلات الفلسفية أنهى هشام صعب حديثه، مؤكدا أن هناك علاقة تنشأ بين النحال ونحله، ويشعر بها ككائنات حية تفرح وتحزن، تحيا وتموت.
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)