موجة الاحتجاجات التي باتت تعرف باسم «قوافل الحرية» كانت قد بدأت من كندا حين نجح مئات من سائقي الشاحنات الثقيلة وآلاف المحتجين في سد الطرقات الرئيسية وبعض الجسور الحيوية في العاصمة الفدرالية أوتاوا وأماكن أخرى، لكن عدواها سرعان ما عبرت المحيط وانتشرت في عدد من البلدان الأوروبية، بينها فرنسا وهولندا وألمانيا ثم بلجيكا.
وكانت نقطة انطلاق الاحتجاجات قد تركزت في الاعتراض على إجراءات التقييد التي اتخذتها غالبية الحكومات المعنية كجزء من سياسات الحد من انتشار فيروس كوفيد-19، ومن ضمنها فرض اللقاحات بطرائق إلزامية غير مباشرة عبر جواز التطعيم أو الجواز الصحي كشرط لدخول المواطنين إلى أماكن التجمعات العامة وصالات الترفيه والمطاعم والأنشطة الرياضية والثقافية المختلفة.
ورغم أن نسبة رافضي التطعيم تظل أقلية في هذه المجتمعات التي شهدت انبعاث حركة «قوافل الحرية» إلا أن النقاش بصدد جملة القيود الخاصة بتنظيم الحياة والمرافق والأشغال تحت وطأة كوفيد-19 ومتحوراته المتعاقبة اتسع نطاقه وتعددت ميادينه وتنوعت الآراء حوله في صفوف القابلين والرافضين معاً، وأخذ يقترب كثيراً من منطق القاعدة الشهيرة التي تقول بحدود حرية الفرد والمصلحة الشخصية عندما تبدأ حرية المجموع والصالح العام.
ومن جانب آخر، صحيح أن فاعلية اللقاح أياً كان حجمها وأمدها لا تنفع الأفراد الذين وافقوا على تلقيه فقط، ولكنها أيضاً تشمل نفع المحيطين به في أسرته وعمله ومجتمعه إجمالاً، وبالتالي فإن الحرص على التلقيح يصبح واجباً اجتماعياً ومسؤولية عامة. غير أن من الصحيح كذلك أن ضمان أقصى مقدار من جدوى اللقاحات يرتبط بتأمين تلقيه على النطاقات الأوسع عالمياً، لأن العالم صار قرية صغيرة من حيث الاتصال والتواصل والاحتكاك، وإذا تمتع باللقاح شعب هنا أو قارة بأكملها هناك فإن بقاء بقاع أخرى من العالم مفتقرة إلى نسبة تلقيح عالية سوف ينقص كثيراً من الفاعلية.
هذه حال العديد من المجتمعات في الدول النامية، كما في مثال القارة الأفريقية التي لا تتجاوز نسبة التلقيح فيها 10٪ مقابل 70٪ أو أكثر في الدول المتقدمة والغنية. وإذا كانت معدلات الإصابة بالفيروس، وكذلك أرقام الوفيات واكتظاظ وحدات العناية المشددة في المشافي، قد انخفضت بمعدلات ملحوظة في المجتمعات التي حققت نسب تلقيح عالية، فإن تدني النسب في أماكن مختلفة أخرى من العالم لا يربك سياسات القيود وجوازات التلقيح والصحة فقط، بل قد يبطل الكثير من أبعادها الوظيفية الوقائية.
ولا يتوجب أن تُنسى هنا حقيقة أن مضامين الاحتجاج التي صارت ترتبط بتحركات «قوافل الحرية» لم تعد تقتصر على بند كوفيد-19 والقيود والجوازات، بل أخذت تستعيد أجندات حركات احتجاج سابقة أعمق وأبعد أثراً على غرار استئناف أجندة «السترات الصفراء» في فرنسا، وارتفاع مطالب رفع القدرة الشرائية، والحد من غلاء أشكال الطاقة المختلفة من الوقود إلى الكهرباء، إذا وضع المرء جانباً واقع استغلال أنساق هذه الاحتجاجات من جانب حركات اليمين المتطرف والعقائد العنصرية والتعصب القومي وكراهية المهاجر والأجنبي والآخر عموماً.
وهكذا فإن معادلة «قوافل الحرية» ليست متحررة من قيود الجدل بين مصلحة الفرد وصالح المجموع.