تحت عنوان ’’مشاركة التراث الثقافي الجزائري‘‘ برعاية بلدية مدينة مونتريال، نَظم ’’المتحف البيئي الجزائري‘‘ (Écomusée de l’Algérie) عدة فعاليات من موسيقى ورقص وعرض تحف ومجوهرات وورشة عمل لتعليم صناعة السجاد على الطريقة الجزائرية.
بعدما احتفت مدينة مونتريال على مدى شهر ونصف الشهر في الربيع المنصرم بأيام التراث الثقافي الجزائري، أقيمت نهاية شهر أيلول / سبتمبر المنصرم احتفالية أخرى ليوم واحد توزعت أنشطتها في الداخل وفي الهواء الطلق في حديقة هنري بوراسا في شمال المدينة. وتندرج هذه الفعالية في إطار الاحتفال بتراث الفسيفساء الإثني الذي يتشكل منه المجتمع في دائرة شمال مونتريال (Arrondissement de Montréal Nord)، وتعد الجالية الجزائرية من الأقليات العرقية الفاعلة والناشطة في هذه الدائرة.
حماية الإرث الثقافي وتوريثه للأجيال القادمة
تقول أمينة سر منظمة ’’متحف الجزائر البيئي‘‘ غير الربحية التي تأسست في مونتريال عام 2021 الشابة مَنيسا تزاموشت: ’’هذه الأنشطة تساهم في تعرفنا على إرث الأجداد والمحافظة عليه هنا في كندا… أنا تركت الجزائر في سنّ الـ 16 عاما، وأجد أنني بعد مرور عشر سنوات في كيبيك، لا أبني جسرا مع سكان مسقط رأسي فحسب، بل مع أجزاء الجزائر كلها بغناها وثقافاتها المختلفة‘‘.
يبدأ الوعي بالمستقبل وإرساء القواعد لترسيخ وجودي في المجتمع من نقطة استرجاع الذاكرة القديمة والغوص في تاريخ ومآثر الأجداد…إنني لا أبدأ من الصفر، إنما أكمل مشوار من سبقني.
نقلا عن مَنيسا تزاموشت، أمينة سر منظمة ’’متحف الجزائر البيئي‘‘
تُثّمن الطالبة الجامعية التي تدرس الماجستير في علم الاجتماع هذا النوع من التظاهرات الثقافية لأنها تساهم في محافظة جيل الهجرة الثاني على كل المكتسبات التي حملها معه من بلده الأم مضيفا إليها الخبرات الجديدة التي تكونت من خلال التفاعل الإيجابي مع مجتمعه الكندي. ’’في المقابل، تضيف مَنيسا، تساهم هذه الفعاليات في تعريف المجتمع المضيف على مخزوننا الحضاري وتقاليدنا وعاداتنا ولغتنا وثقافتنا وطريقة عيشنا. في بادىء الأمر، قد يحصل تصادم، قد تحتدم النقاشات وقد يشوب لغة الحوار بعض سوء فهم، ولكن من المؤكد أنه سينبثق عن كل ذلك إنسجام وتناغم وعيش مشترك جميل‘‘.
من جهتها، وجدت مليكة مولاي التوازن بين أمسها وحاضرها، بين القدم والحداثة، مسترجعة بالحُلي التي تصنعها مجدا غابرا، روحا ومضمونا، وموضة عصرية، اسلوبا وشكلا.
من الكيمياء إلى صناعة الحُلّي
لعل الانصهار في الحداثة مع الاحتفاظ بالتراث عملية ليست بالصعوبة الشديدة عند من صهرت علم الكيمياء بصناعة الحُلّي.
قبل مجيئها إلى كندا، لم تكن مليكة مولاي تستطيع أن تمارس الهواية الأحب إلى قلبها بسبب الالتزام المهني في مجال الصيدلة والأدوية خصوصا أنها تحمل شهادة الماجستير في الكيمياء. ولكن كندا سمحت لها بتكريس الوقت ولو على مضض لإتقان صناعة الحلي والمجوهرات بعدما التحقت بـ ’’مدرسة صناعة المجوهرات في مونتريال‘‘ وحصلّت الشهادة في هذا المضمار.
حاليا وبعدما تحولت إلى دوام عمل جزئي في مجال الصيدلة، تتفرّغ مليكة مولاي لخلق تصاميم تجمع بين روح الحداثة وعبق الماضي الأمازيغي العريق، خصوصا أنها تنحدر من أصول أمازيغية، ’’أحرص على أن أحقق التوازن بين القيمة الفنية والقيمة التاريخية‘‘، على حدّ تعبير مليكة مولاي.
تتمخض تصاميمي بروح الماضي فأستخدم الفضة والذهب والأحجار الكريمة والزخارف كما يصنع الأمازيغيون حُليهم، ولكنني أقدمها بقالب يحاكي الحاضر عبر استخدام أدوات التقنية المعاصرة…تتأرجح القلائد والأساور والخواتم والخلاخيل وغيرها من الحلي التي أصنعها بين عبق الماضي وألق الحاضر.
نقلا عن مليكة مولاي، مصممة مجوهرات
الزَربيّة الجزائرية ورونقها الساحر
كان الطقس الجميل على الموعد في ذلك اليوم وسمح بإضفاء أجواء البهجة والسرور مع تتالي اللوحات الفنية من أزياء ورقص وغناء فولكلوري جزائري. ولعل اللوحة الأجمل كانت ورشة تعليم حياكة الزَّرْبِيَّة، أو السجاد الجزائري، مع معمرة ناهزت الثمانية والثمانين حولا.
بيدين ترويان كفاح عمر وبزيّ أمازيغي وقد عصبت شعرها بشال مزركش مع وجه بشوش بملامحه الهادئة، شرعت السيدة خلوجة بكل اتقان وفخر، تنقل موروثا حِرفيا يعتبر أحد المراجع الأساسية للصناعة التقليدية في بلدها الأم. إذ تعتبر صناعة السجاد، أو الزرابي، التي تنسج يدوياً، رفة تقليدية قديمة في الجزائر، وكثيرا ما تستخدم هذه الزرابي لتزيين المنازل سواء بتعليقها على الجدران أو وضعها على الأرض. و’’الزربية‘‘ مصطلح شائع في الجزائر للتعبير عن السجاد المصنوع من الصوف. تتطلب صناعته شد الخيوط بإِحكامٍ ودقة للحصول على رموز وأشكال هندسية تقليدية تميز كل ’’زَربية‘‘ عن غيرها، كما توضح من ’’كانت تحيك في تلك الاحتفالية خيوط عمرها كلّه وليس خيوط السجادة فحسب‘‘ كما تقول مليكة مولاي.
تعرّف الحضور من الكندييين وأبناء الجالية الجزائرية والعربية وغيرها من الجاليات في مدينة مونتريال المشارك في تلك الفعالية على صناعة تعود إلى أكثر من 5 آلاف سنة. وكان يجب توفر كل المعدات القديمة المتوارثة عن الأجداد لحياكة ’’الزَربية‘‘، التي كان يستخدمها السكان المحليون الأمازيغ، مثل آلة تصفية الصوف التي تسمى باللهجة الجزائرية ’’القَرْداش‘‘، وكذلك الغربال والفانوس.
تُعبّر مليكة مولاي المخضرمة التي شاركت في ورشة تعليم صناعة السجاد عن انبهارها بما شاهدته حيث اكتشفت أشكالا ورموزا أخرى غير تلك التي تعرفها عن صناعة السجاد في الجزائر العاصمة حيث نشأت وكبرت. ذلك لأن طريقة صناعة الزرابي تختلف من منطقة إلى أخرى إذ تعبّر كل ’’زربية‘‘ برموزها الخاصة عن البعد الاجتماعي والثقافي والتاريخي لمنطقة جزائرية بعينها.
تؤكد مَنيسا تزاموشت على الطابع الاجتماعي والثقافي فحسب لمنظمة ’’متحف الجزائر البيئي‘‘ التي يراسها عالم الانتروبولوجيا والمتاحف الكندي الجزائري رضا بريكسي، تقول: ’’بعيدا عن السياسة وبعيدا عن الدين، ذلّلنا كل الحواجز ليكون هدفنا التقارب الإنساني الثقافي الصرف لكي نبني معا عالما يسوده الانسجام والتناغم والترابط والتعايش والألفة بين أبنائه غير المتجانسين بالضرورة‘‘.