سهام قرطاس هاجرت من لبنان والياس يوسف هاجر من سوريا، كلاهما ينتمي إلى جيل الهجرة الأول ويجمعهما ’’الآخر‘‘.
ينتميان إلى الجيل الأول من الهجرة، سهام قرطاس (نافذة جديدة) مولودة في مدينة زحلة ’’عروس البقاع‘‘ في لبنان والياس يوسف كورية مولود في مدينة القامشلي ’’عروس الشمال السوري‘‘ في محافظة الحسكة. لكل منهما مشواره وهجرته وإرثه الثقافي والاجتماعي. جمعهما الفن منذ عدة سنوات في مونتريال، وهما يعتليان خشبات المسارح في المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية والاجتماعية التي تشهدها المدينة الكوسموبوليتية،
في إطار تظاهرة ثقافية تحت عنوان: ’’المشاركة مع الآخر المختلف‘‘. يقدم إلياس كورية موسيقى شرقية بحتة على آلة العود، في حين تتولى سهام قرطاس أداء الأغنيات بصوتها الشجي العذب كما تضطلع بمهمة شرح تاريخ آلة العود وغيرها من الآلات الشرقية الوترية وأصول الموسيقى العربية باللغة الفرنسية. ’’هذا الشرح يضع الجمهور الكندي في السياق ويسهل عملية استساغته للأنغام، وحتى كلمات الأغنيات وإن كان لا يفهم معناها، فتبلغ درجة التفاعل أقصاها بيننا وبين هذا الجمهور غير العربي في كثير من الأحيان‘‘، تقول سهام قرطاس.
شجن يحمله الصوت
كان يقول لي زملائي في التدريس عندما أغني: نحن لا نفهم ما تقولين في أغنيتك ولكننا نتأثر كثيرا بطريقة الأداء وعمق الإحساس الذي يصل إلينا. تهتز قلوبنا من دون شعور منا وتغرق عيوننا بالدموع عندما ينساب ذلك الشجن وشدة الحنين في صوتك[…]هذا يبرهن قدرة الصوت والأداء على اختراق الآخر بمعزل عن اللغة.
نقلا عن سهام قرطاس، متقاعدة من سلك التعليم
تصّر هذه الأخيرة على التحدث بلغة الضاد، وإذا كان تعاقب سنوات الهجرة والتوالف مع لغة موليير يظهر بشكل جليّ في لكنتها، فإن طريقة نطقها للكلمات تحمل سحرا خاصا ونكهة مميزة.
تشير سهام قرطاس إلى فضولية المتلقي الكندي في التعرف على الثقافة واللغة التي تحملها في جذورها. هذا المتلقي تواق إلى معرفة الآخر والانفتاح على إرثه الحضاري، ’’لا تتوقف أسئلة الجمهور الكندي بعد الحفلات التي نقدمها ويخوض معنا في أدق التفاصيل من أجل معرفة أكثر عمقا وفهم أكثر شمولية. في كل ’’مشاركة‘‘ نحتفي بتراث هذا ’’الآخر‘‘ بكافة وجوهه، أكان على صعيد التنوع الفني بالآلات الشرقية المتعددة أو التنوع الأثني بالقيم والتقاليد وخصوصية اللغة. ’’وحتى التابوهات في المجتمعات العربية، يرغب المتلقي الكندي في التعرف عليها أيضا، في محاولة منه لفهم أكبر لخصوصية أبناء الجاليات العربية المتواجدة على أرض بلاد القيقب‘‘.
’’آثار خطانا على الثلج أو الرمال تختفي معالمها‘‘
ينصهر ’’الآخر‘‘ في مجتمعه الجديد ويصير جزءا منه، لا تعود له هويته الخاصة وإنما يعتنق الهوية الجماعية التي تعني المشاركة والاندماج والانصهار والتعايش، لتكوين فسيفساء حضارية بهية مشرقة.
بهذا المعنى كتب النحات الكندي الفرنسي الشهير، الذي يتقن فن الكلام أيضا، روجيه لونجفين (نافذة جديدة) أغنيته الرائعة المفعمة بالمعاني الإنسانية: ’’الآخر‘‘ ، ولحنها الفنان الكيبيكي سيرج أرسونو. تُرجمت هذه الأغنية إلى عدة لغات، والترجمة العربية قامت بها الدكتورة الكندية اللبنانية المتخصصة في علم اللغة النفسي رجا حمود شاربونو (نافذة جديدة). قصيدة ’’الآخر‘‘ انشودة توصف مشوار العمر وأهمية الصداقة في حياة بني البشر، وقد اكتست صبغة عالمية بمعانيها ولغاتها المختلفة، إنما اللحن واحد مع تطويعه للآلات الشرقية التي تتميز بربع الصوت أو النوتة في نسختها العربية مثلا. تجوب اربع فرق من جنسيات متعددة كافة المدن عبر مقاطعة كيبيك لتقديم هذه الانشودة مع باقة أخرى من الريبرتوار الغنائي في البلدان الأصلية، التي يتلقفها الجمهور الكندي المتعدد الجنسيات بنهم وشغف لأنها تعكس صورة ’’مدينة فاضلة‘‘ تجمع بين سكانها قواسم إنسانية مشتركة كثيرة.
آثار الزمن صديقي على وجوهنا، رويدا رويدا يرسم تجاعيدنا، كل في طريق، لا نرى بعضنا[…] أمد إليك يدي قدر استطاعتي، أنت وانا بين الحب والحقد، آثار خطانا على الثلج أو الرمل تختفي معالمها، تمّحي قبل غدي، يوم قصير، ليل سريع، يجمعنا[…] تجاه نفس المصير نجلس سويا، تمضي الساعات… فلننسى همومنا، فلنتشارك الأمان والأحزان. لستَ الآخر بل صديقي، لستُ الآخر بل صديقٌ.
نقلا عن الآخر، أغنية كتب كلماتها بالفرنسية النحات الكندي الفرنسي Roger Langevin
(أنتجت الفيديو كليب لأغنية L’Autre سهام قرطاس، وصور في كندا مع لمسة شرقية خصوصا في مشهد قطاف أوراق العنب. تظهر نجمة الفيديو كليب سهام قرطاس بكل عفوية وتلقائية وكأنها امتهنت التمثيل طيلة حياتها وفي المستوى ذاته الغناء. ولعل أكثر ما لفت انتباهي في الفيديو كليب المفعم بالشجن والحنين والنوستالجيا، هو مشهد الرجل المسّن الجالس على مقعد في الحديقة ويتبادل الابتسامات مع سهام في حوار نقرأه في العيون وملامح الوجه، يحمل في طياته ودا واحتراما وشغفا بالحياة والجمال. الترجمة إلى العربية من إعداد الدكتورة رجا حمود، الفنان طوني معصّب على الدربكة، ابراهيم نداف على القانون والياس يوسف كورية على آلة العود.)
دروس العود مقابل الحليب
هاجر الفنان الياس يوسف كورية إلى مونتريال في العام 1990 من القرن الماضي، حاملا معه تاريخا وإرثا شرقيا متنوعا يشبه الفسيفساء التي يتكون منها مسقط رأسه في القامشلي التي يتشكل فيها مزيج من الحضارات حملتها معها الشعوب الكردية والعربية والسريانية والارمنية و الارامية والكلدانية والآشورية وغيرها.
لا يعرف محدثي سرّ تعلقه منذ نعومة أظفاره بآلة العود ’’التي تصدر صوتا حنونا‘‘، كل ما يتذكره أن في حيّهم كان هناك حلاق يهودي يعزف العود وهو كان يجلس قبالته متسمرا من دون الاتيان بأدنى حركة عندما كان طفلا. مسحورا بحركة أنامله التي تلعب بمهارة على الآلة التي يصدر عنها أصوات تحمله إلى السماء السابعة وتسرح به في عوالم رحبة جميلة.
لم يقلّد ألياس كورية الحلاق اليهودي في العزف على العود فحسب، بل قلّده أيضا في امتهان الحلاقة، محققا ربما رغبة والده ’’ماسكا المجد من طرفيه‘‘ بتردده على صالون حلاق الحي اليهودي.
علما أن الأب كان يعتبر أن عزف الموسيقى ’’عيب‘‘ وينصح ابنه قائلا: ’’روح تعلم شي مهنة أحسن لك‘‘. أما والدته التي كانت تملك صوتا جميلا، فكانت تشجعه، وهي من اشترت له أول آلة عود عند بلوغه ربيعه الرابع عشر. وبعد ذلك بوقت قليل، كان إلياس كورية يسافر إلى حلب التي تبعد عن القامشلي نحو 500 كلم حيث تتلمذ على يد أساتذة كبار في عزف العود.
قبل ذلك، صنع الياس يوسف أول آلة عود من جالون بلاستيك وخشب، تشبه بشكلها آلة الربابة أكثر من شبهها للعود ذاته، هذه الآلة المبتكرة ستسمح فيما بعد لصانعها بالعزف على كل أشكال الآلات الوترية مثل البزق والربابة والـ ’’جنبش‘‘ وهذه الأخيرة هي آلة تركية. ’’اتحدتُ بهذه الآلة خصوصا أنه لم يكن هناك محال لبيع الأعواد في القامشلي في ذلك الوقت، وأمست لعبتي المفضلة ولم تكن تسعني الأرض بأسرها حين أبدأ بالعزف والتقسيم. كانت تنتشر أجواء صخب الأنغام في كل أرجاء البيت وبيوت الجيران والشارع، مقلقا راحة أهل الحي، خصوصا أنني لم أكن بعد قد تعلمت النوتة وكان عزفي سمعيا فطريا‘‘.
الحياة حلوة للفنان فريد الأطرش هي أول معزوفة عزفتها على السمع على عود شرعي خلال زيارة عند صديق العائلة الذي يعزف على آلة العود حنا المختار في حلب. في طفولتي، لم أكن أفوت مشاهدة أي فيلم للموسيقار الراحل فريد الأطرش تعرضه السينما في ذلك الوقت، كما أنني كنت دائم الاستماع إلى أغاني الأطرش في الراديو، أُغيب نوتاتها واحفظها عن ظهر قلب.
نقلا عن الياس يوسف كورية، عازف عود
(الياس يوسف كورية يرسم شرفات يطّل منها على العالم الأرحب)
يتذكر المتحدث كل تفاصيل تلك الزيارة إلى بيت المختار، وكأنها حصلت بالأمس القريب، بشغف وكثير من التفاصيل راح الياس يوسف يسترجع ذكريات الطفولة المحفورة في قلبه وعقله. يسرد المتحدث: ’’كان السيد حنا مختار في ذلك اليوم مستلقيا في فراشه بسبب المرض، وكان عوده نصب عيني فطلبت منه أن يسمح لي بالعزف. وهو لم يجد غرابة في طلبي وكأنه كان متأكدا من أن العود سيكشل مسيرة حياتي كلها وبأن ذلك متوقف على السماح لي بمداعبة أكثر ما عشقته في حياتي، آلة ستكون رفيقة دربي وتوأم روحي العمر كله‘‘.
ظل إلياس كورية نجم الحفلات والأعراس ومناسبات الأعياد في القامشلي على مدى 5 سنوات قبل أن ينتقل للعيش في العاصمة السورية دمشق عندما صار عضوا في فرقة ’’أمية للفنون الشعبية‘‘ التي تأسست في عام 1960 بقرار صادر عن وزارة الثقافة السورية. يروي محدثي أيضا، أنه تعرّف على الفنان صليبا القطريب والد الفنانة اللبنانية الراحلة سلوى القطريب، الذي كان يعزف على آلة العود في فرقة الموسيقار محمد عبد الوهاب. وفي تلك الأثناء كانت هناك حفلات يقدمها الموسيقار المصري في سوريا. وبما أن والديّ كورية كانا يربيان الماشية، طلب إليه صليبا القطريب أن يأتيه كل يوم بـ ’’طاسة‘‘ حليب طازج لقاء إعطائه دروسا في العزف على آلة العود.
سيعتلي هذا الفنان العصامي، خلال مسيرته الفنية اللافتة، خشبة مسرح واحدة إلى جانب فنانين كبار أمثال صباح فخري والشحرورة صباح، وليد توفيق وهيام يونس وغيرهم، كذلك له العديد من الألحان الخاصة.
يعتنق الياس يوسف كورية فلسفة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في تحديد الفنان الجيد، فهو تتضافر فيه ’’ثلاث صفات: الموهبة، العلم والذوق الفني‘‘.
كندا حيث الأحلام ممكنة والخيال متاح
تقول سهام قرطاس إنها ممتنة لإلياس كورية حرصه على مواكبة موهبتها واحترافها الذي أتى متأخرا، علما أنها تخصصت في التربية ونالت الماجستير من ’’جامعة لافال‘‘ (ULaval) في مدينة كيبيك في بداية السبعينيات من القرن الماضي. أتت حينها بمنحة مع مجموعة مؤلفة من 10 طالبات لبنانيات، أتين أيضا للتخصص الأكاديمي، بينهن صديقتها التي استقرت في كندا الدكتورة رجا حمود. عادت بعدها سهام قرطاس إلى لبنان لتعود مجددا إلى مونتريال كمهاجرة بعد اندلاع الحرب في لبنان في العام 1975. انضمت قرطاس إلى السلك التعليمي في المعهد العالي في مونتريال Cegep Marie Victorin (نافذة جديدة) من العام 1978 حتى العام 2008. في هذا العام تقاعدت قرطاس من التعليم لتنطلق في تحقيق أحلام وطموحات تكرس لها كل الوقت اليوم وتشغل حياتها في سن التقاعد. تفتخر المتحدثة بأنها اليوم عضو في نقابة الممثلين في كيبيك، ويطلبونها للعب أدوار في السينما و الدعاية.
’’كنت درست المسرح في لبنان، تقول سهام قرطاس، ولكن لا أستطيع القول إنه كان لدي حلم بالغناء، ولكن هكذا شاءت الظروف أن تفتح أمامي أبواب وتجارب وإمكانيات لأطور موهبة الصوت وأساهم في مسيرة ثقافية وفنية واجتماعية في مجتمعي الكندي‘‘.
(أغنية ’’الآخر‘‘ بنسختها الفرنسية الأصلية بصوت روجيه لونجفين وألحان سيرج أرسونو، مع منحوتة صممها لونجفين خصيصا للأغنية)
يقول الكاتب اللبناني المهاجر أمين معلوف في سياق عرضه لإشكاليات الهوية وأزماتها، إننا مصنوعون من عدة هويات، وهكذا فأنا لا زلت أشعر بانتمائي إلى لبنان وهكذا هو الشعور عند أولادي أيضا. أنا من أصل لبناني متأقلمة ومرتاحة في كندا، هناك فرص حقيقية وفرتها لي هذه البلاد[…] لو كنت أعيش في لبنان اليوم، لما كنت مثلّت ولا غنيت خصوصا في هذه المرحلة من العمر.
نقلا عن سهام قرطاس، استاذة سابقا في معهد ماري فيكتورين في مونتريال
تؤكد المتحدثة بأن أصلها اللبناني كان يرافقها دوما، ’’كان يقول زملائي الأساتذة: ها هي الديبلوماسية اللبنانية جاءت، وها هي اللبنانية الصغيرة فعلت…اختلافي ظل ظاهرا ولكنه اختلاف مقبول ومحبوب في مجتمعي الكندي، ويقّر الزملاء بأنهم تعلموا مني الكثير كما أنا أيضا تعلمت منهم، وهذا هو التعايش المثمر والناجح في المجتمعات كافة‘‘.
تستمر سهام قرطاس في تحقيق مساحات الضوء الخاصة بها وقد حصلت مؤخرا على منحة من ’’مجلس الفنون والآداب في كيبيك (نافذة جديدة)‘‘ لإنتاج فيلم وثائقي عن حياتها، وقد وعدت المتحدثة باطلاعنا على كل التفاصيل في مواعيد آجلة.
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)