بقلم: نزار العوصجي
ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح الدين..
وكانت الحافلة “المنشأة” تعج بالجنود الأحداث الملتحقين بوحداتهم العسكرية لأول مرة..
بعد أن استقر كل في مقعده انطلقت الحافلة الى وجهتها.. فبدا الجميع يبحث عما يتسلى به تمضية للوقت فتعلقت اعين الجنود جميعا بالفتاة البصراوية الجميلة الساخنة السمرة ….فراح البعض يتغنى بشعرها وآخرون يتغنون بعيونها والبعض بأناقتها وأنثوتها وحسن سلوكها…فلقد كانت حقا جد رائعة وأخّاذة في كل ماتمتلك من محاسن وترتدي من ثياب…
ولم يلبث الأمر على حاله طويلاً حتى تحول وعلى نحو ارتجالى محض الى غناء وغزل بها وبايقاع محير كان بتهوفن او جايكوفسكي او محمد عبد الوهاب هو من يرسم ويهيمن على الأمر لحنا وكلمات.
انزعج السائق كثيرا من تصرفات الجنود وبدافع الحسد والغيرة والتنافس على قلب عبلة او ليلة او جوليت … فهددهم بالوقوف في نقطة التفتيش المقبلة “السيطرة” ليتقدم بشكوى لدى الانضباط العسكري عليهم جميعا …
فما كان من الفتاة إلا أن انتفضت برقي وأدب ودماثة خلق متوسلة الى السائق بعدم فعل ذلك ورجته بالحاح وشدة ان يتركهم وشانهم….
فقال السائق مستغربا لها : إني أفعل ذلك من أجلك.
قالت : أعلم …لكن هؤلاء شبّان بسطاء ويفترض أن تفتح الحياة لهم مرحبة بسعادة كل أذرعها وأبوابها..لكن قدرهم هو أنهم ذاهبون بكل ارتياح وإقدام وأريحية الى جبهات القتال … وقد يعود بعضهم وقد لا يعود …فلا تستكثر عليهم لحظات السعادة البسيطة هذه … فهي تعني بالنسبة لهم الكثير.
قال لها : ألا تخافين وأنت بين أظهرهم وهم في أوج المراهقة والهيجان والانشراح ؟
فقالت : هم يحمون الوطن فكيف لا يحمونني ؟!..
في هذه اللحظة التاريخية صدحت أفواه الجميع تغني بكل شهامة وحشمة وحرص صادق
أنشودة :
احنا مشينه مشينه مشينا للحرب….
عاشگ يدافع من اجل
محبوبته محبوبته محبوبته..
هذا العراقي العراقي العراقي من يحب
يفنى ولا عايل يمس
محبوبته محبوبته محبوبته
احنه مشينه للحرب…
فدهش الجميع وأخذوا يرددون بحماس واندماج هذه الكلمات المعبرة الصادقة الصادرة من أعماق الضمير والوجدان..
أما أنا ونحن نترجل من الحافلة طلبت منها على مرأى من الجميع أن أقبّل رأسها …. وفعلت …..فودعها الجميع بكل إجلال وتقدير. فأحسست عندها عميقا في خاطري بأن رجال العراق كافة تجسدوا بهؤلاء الجنود الغيارى وجميع نسائه في ابنة الجنوب العظيمة هذه…..
وهكذا كان رجال العراق الجميل ونساؤه الماجدات …حمى الله العراق وشعبه وأعاده لطبيعته ورفع الحيف والظلم عنه منذ احتلال عاصمة الخلافة الإسلامية التليدة من قوى الشر والظلام.