منذ عام 2003، كان لعلاقات واشنطن مع بغداد أهمية خاصة، حيث عينت واشنطن مبعوثين خاصين، قبل أن تسلم السلطة لحكومة عراقية وتستمر بإسنادها عسكريا وسياسيا واقتصاديا وديبلوماسيا لأعوام.
والثلاثاء، أكدت السفارة الأميركية في بغداد، دعمها لـ “الدعوات الأخيرة التي تحث جميع الأطراف على المشاركة في حوار وطني بناء يمكن أن يؤدي إلى تهدئة التوترات الحالية”.
وأطلقت الحكومة العراقية هذه الدعوات، لكن بيان السفارة على الرغم من دعمه، يبدو إشارة أخرى إلى تراجع العلاقة المباشرة، المتشابكة والحيوية بطبيعتها، بين واشنطن وبغداد بشكل كبير، “منذ منتصف عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حيث بدا أن العلاقات بين البلدين ستنتهي في مرحلة ما” وفقا لكبير الباحثين في معهد واشنطن، بلال أحمد وهاب.
ويقول وهاب إن “واشنطن تبحث الآن عن علاقة مستدامة طبيعية مع بغداد، وليس العلاقة المتفاعلة التي كانت تمتلكها في السابق لتخفيف التوتر الذي أدى إلى تحويل العراق إلى ساحة حرب بالوكالة بينها وبين إيران”.
وأدى قتل الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، بداية عام 2020 بضربة أميركية في بغداد، إلى شن إيران لضربة صاروخية انتقامية على قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار العراقية، وأنذر الوضع بعدها بتزايد التوتر بين البلدين قبل أن يتجه تدريجيا إلى الهدوء.
ويعتقد وهاب أن واشنطن أرادت تخفيف التوتر من خلال تخفيف تداخلها مع الوضع العراقي، واقتصرت على “دعم كبير جدا للعراق وللأمم المتحدة لإنجاح الانتخابات الأخيرة عام 2021”.
لكن وهاب يضيف أن “واشنطن لم تتفاعل بما يكفي مع مخرجات الانتخابات لضمان وصول رئيس وزراء صديق لها أو على الأقل متعاون معها”، ويقول إن هذا “الضعف” في التعامل يدل على سقف “منخفض” بما يتعلق بتوقعات العلاقة مع بغداد، أو بمدى قوتها.
ويؤكد أنه “ربما أرادت واشنطن علاقة مستقرة، لكن المشكلة هي أن العلاقة المستقرة أصبحت الغاية وليست الوسيلة للغاية التي كان يجب أن تكون مساعدة العراقيين على تجاوز مشاكلهم”.
وأضاف أن “ضعف دور واشنطن كذلك بسبب ضعف أو انعدام تواصلها مع الأطراف الشيعية، حيث اندمج المعتدلون الذين كانت الولايات المتحدة تتواصل معهم عادة مع أطراف الإطار ذات الميليشيات المسلحة، ولا يوجد اتصال مباشر مع التيار الصدري، مما أضعف قدرة أميركا على إسماع صوتها”.
وأنتجت الانتخابات الأخيرة أزمة ما تزال مستمرة، حيث فشلت الكتلة البرلمانية الأكبر التابعة لمقتدى الصدر بتشكيل تحالف لديه أغلبية كافية لتمرير رئيس وزراء، مما أدى إلى استقالة الكتلة، ولاحقا إلى خروج أنصارها بتظاهرات ما تزال جارية واعتصامات منعقدة في مجلس النواب العراقي حتى الآن.
ويهدد الوضع العراقي بالانزلاق نحو العنف بين الفصائل المسلحة التي تمثلها كتلة الإطار التنسيقي المنافسة للصدر، وبين سرايا السلام التابعة له.
ويمتلك الطرفان ما يقدر بنحو 100 ألف مسلح، كما يسيطران عملية على الجزء الأكبر من قوة وتسليح الحشد الشعبي العراقي.
الوضع “ليس كارثيا بعد”
وتشتد الأزمة المحلية في العراق بالتزامن مع اشتداد الأزمات العالمية، مثل الحرب في أوكرانيا، والتوتر في الصين، وأزمات الطاقة وسلاسل التوريد الناجمة عن الاثنين، كما أن أزمة كوفيد -19 والتداعيات الاقتصادية لها ما تزال مستمرة.
ويقول الزميل الأقدم في معهد كاتو للدراسات، دوغ باندو، إن “الوضع في العراق ليس كارثيا بعد” بما يكفي لجذب انتباه الولايات المتحدة مقارنة مع ما يحدث حول العالم.
وأضاف باندو لموقع “الحرة” أن “هذه مفارقة، لكنه الواقع”، مضيفا أن إدارة بايدن مشغولة بما يجري في أوكرانيا، حيث “يأخذ هذا الكثير من الجهد”، والتوتر مع الصين، وأيضا بالملف الاقتصادي بشكل كبير.
وتابع أن “العراق حاليا موضوع على الموقد الخلفي”، في إشارة إلى تراجع اهتمام الإدارة بما يجري في بغداد مضيفا أنه “حتى في رحلة بايدن إلى الشرق الأوسط، فإن الاهتمام ببساطة لم يكن على العراق بقدر ما كان على ملف النفط، وملف علاقة دول الخليج بإسرائيل”.
ويقول دوغ إن هذا التراجع في الاهتمام لم يصب الملف العراقي فحسب، بل أيضا “ملفات سوريا ولبنان كذلك”، ويتابع “في الوقت الحالي لا شيء كارثي يحصل في العراق وفقا لمعايير الإدارة”.
وحتى مع كون العراق من مصدري النفط الكبار، فإن هذا لم يساعد بزيادة الاهتمام بملفه لأن “الإدارة تبحث عن زيادة سريعة في التصدير”.
ويقول الباحث السياسي والعسكري في معهد هدسون، ريتشارد وايتس، إن “التراجع في الانشغال الأميركي بملف العراق لا يعني وجود أي عدائية بين واشنطن وبغداد بالضرورة، ولكنه يعني أن هناك الكثير يجري حاليا مما يشغل واشنطن في أماكن أخرى”.
ويضيف وايتس لموقع “الحرة” إنه “حتى مع أن ما يجري في العراق يقترب من الفوضى، لكنه لا يهدد حتى الآن الولايات المتحدة”.
ويعتقد وايتس أن “الملف الإيراني والاتفاق النووي هو الهم الأكبر لواشنطن حاليا في الشرق الأوسط”.
وبشكل عام، يقول وايتس إن “التأثير الأميركي في عموم المنطقة قد تناقص، ولكن أيضا التأثير الإيراني في المنطقة يتناقص بشكل مفاجئ أيضا، وقد يقود هذان العاملان إلى اختيار رئيس وزراء عراقي غير متأثر بأي من العاصمتين”.
ومنذ أيام يعتصم متظاهرون تابعون للتيار الصدري، بزعامة مقتدى الصدر، في مقر البرلمان العراقي معطلين أعماله، خاصة جلسة مزمعة للتصويت على رئيس جديد للجمهورية تأخر انتخابه أكثر من 10 أشهر، منذ الانتخابات الأخيرة في أكتوبر الماضي.
وانطلقت التظاهرات بعد ترشيح الإطار التنسيقي للقوى الشيعية، للقيادي فيه والوزير السابق، محمد شياع السوداني، لمنصب رئيس الوزراء، واتسعت مطالبها، لتدعو إلى تعديلات “جذرية” لـ”النظام والدستور والانتخابات”، وهي دعوات اعتبرت من قبل الإطار “انقلابا” على الشرعية