انتظرتْ بفارغ ِ الصبر صوتَ انغلاقِ الباب الخارجي!
كان صوتُه في تلك اللحظة أشبهَ بصوتِ الرنين الذي يعلن فُسحة السجناء! أشبهَ بصوتِ الباخرةِ التي رسَتْ أخيراً بعد طول عناء! كان َ أشبه َ بكل شيء ٍ وأي شيءٍ يُعْلِنُ الحرية َ والأمان في آن معاً، ولو بشكل مؤقت!
الآن َ فقط، خرجَت والدتها وأختها الصغيرة إلى السوق، أصبح بإمكانها الاختلاء بنفسها لبرهة من الوقت، تركتْ غرفة الجلوس مسرعة ً إلى غرفتها الخاصة كما لو أنها تركضُ إلى ذراعي حبيبٍ بعدَ طول غياب!
لماذا كل هذا الحنين ؟! فهي لطالما جلستْ وحيدةً في غرفتها! هل لأننا لا نشعرُ بالحرية الصرفة إلا عندما يخلو المحيط ُ تماماً من أي احتمالٍ لقطع السكينة! فالاحتمالات وحدها حتى ولو كانت مجرد احتمالات، كافية ٌ لإشاعة الفوضى في الذهن الذي يتوق إلى السكون.
لم تأبه لهذا الخاطر وجعلتهُ يرحلُ سريعاً، فتحت ْ باب غرفتها وانسلت إلى الداخل كسارقةٍ تعلمُ أنها على وشك الظفر بغنيمة ٍ ثمينة! فتحت خزانة ثيابها وهي لا تزالُ تتلفتُ حولها بغباءٍ وكأنها تخشى خروجَ أحد أفراد عائلتها من الجدران! انتبهتْ إلى بلاهةِ حيطتها، فتنهدت توتُّرها وخاطبتْ نفسها بصوت عالٍ علَّ نفسها تسمع:
_ يا لهذا الوسواس القهري الذي يحكم عقولنا ، نكادُ نشعرُ في هذا المنزل المريض أننا مراقبون حتى من ثيابنا!
حَزِنت عندما أدركت أن حنينها الجميل في البداية قد تحول إلى خوفٍ غير مبرر! تنهدت بعمقٍ مرةً أخرى وقررت متابعة ما تنوي فعله بإيجابية! بدأت بإخراج بعض الثياب بحثاً عن صندوقِ الكنز _ كما تسميه _ وللمرة الثانية داهمها الحزن على حين غرة! وقعت عيناها على قميصٍ ارتدتهُ في آخر موعدٍ مع حبيبها السابق، فلم تفرح لوصولها إلى الصندوق كما ينبغي لها أن تفرح! أخرجت الصندوق من خزانتها وهي لا تزالُ معلقة ً بصراً وروحاً مع ذلك القميص!
كم هو مدهشٌ كيف تتحولُ بعضُ مقتنياتنا من جوهرِها الحقيقي إلى منشطاتٍ للذاكرة في أصغر جزء من أجزاء الزمن!
جلست على سريرها، حَنَت رأسها وهي تُحاصِرُ شفتها السفلى بأسنانها، وكأنها خَجِلة من قميص الذكريات! فتحت غطاء صندوقها واستلَّت منه ما كانت تريدهُ منذ البداية! سيجارة ٌ بيضاء من علبةٍ اشترتها من كافيتريا الجامعة، ولكن عجباً! أشعلت سيجارتها وعادت إلى التحديقِ في القميص كما لو أنها أحست بالذنب!
كانت “ لين “ ابنة ً لعائلة ٍ محافظة، يتمتع ُ والدها وأمها وأخوها بسلطة الرقابة غير المشروطة عليها وعلى أختها! في حين تتمتعُ هي بهذه السلطة على أختها، وتتبادلان الأدوار إذا استطاعت أختها إمساك زلة ما عليها! ولهذا كانت لين تعيش حالة ً من انفصام الشخصية الإرادي! فهي شابة ٌ بارعةُ الجمال حلوة المعشر يدعوكَ وجهها لتناول النبيذ على كرم شفتيها خارج حدود المنزل، وقطة مغمضة العينين تكاد تكون بحاجة إلى من يلقنها الكلمات داخل هذه الحدود!
أطلقت دخان سيجارتها في وجه القميص وكأنها تنفخ عنه غبار الزمن! وفي رد فعل ٍلا إرادي نظرت إلى الصندوق ِوبدأت بإخراج الذكرياتِ الواحدة تلو الأخرى!
في البداية أخرجتْ سيجارةً ملفوفة ً يدوياً! كان حبيبها قد لفَّها لها ذات مرة فاحتفظت بها لأن على أطرافِها بعضاً من شهدِه! ابتسمتْ: _ هل سيصدق أحد أنها ليست سيجارة مخدرات إذا رآها في حوزتي ؟!
هزَّت رأسها وضحكت ثانية عندما أخرجت من الصندوق خنجراً !! مع إيذان عينيها باقتراب المطر! وضعته بجانب السيجارة الملفوفة على سريرها وهي تتمتم: _ يا للشبان وقدرتهم العجائبية على إفراغِ اللحظة من محتواها! حتى عندما يحاولون التعبير عما يختلجُ في صدورهم، فإنهم يحولون أعمق الأحاسيس وأكثرها وجدانية إلى شيء جلفٍ كالخنجر!
فحبيبها كان قد أهداها هذا الخنجر، لتتذكره في كل مرة تحاول فيها الافتراق عنه، لأنه حاول على حد زعمه أن يقطع به شرايينه ذات مرة عندما انفصلا !!
أطلقت دخان سيجارتها هذه المرة مباشرة في الصندوق، فارتد إليها وبدأت بالسعال ودمعت عيناها حقاً، لكنها لم تأبه للغمامة المستجدة وأخرجت بتقدير واحترامٍ كبير بضعَ أوراقٍ بدأ الاصفرار يزور أطرافها! نظرتْ إليها كأنها مجموعة من العشاق وكأنها تحب كل واحد منهم بكل جوارحها! هي تعرفهم جيداً بل تحفظهم عن ظهر قلب، لكنها بدأت بقراءتها كما لو أنها تقرؤها للمرة الأولى!: فوشاح الشعر يعذبني. كخيوطِ حريرٍ ليلية .. تقتلني النظرة تذبحني .. يا ذات عيونٍ بنية! .. فخذيني لأغزل من شَعرك .. ملكاً وملابس ملكية .. و خذيني لأسرق من شِعرك .. كلمات لغاتٍ منسية .. لا أعظم من حب امرأة .. يمحو بالحب الأمّية!
ضمت الأوراقَ إلى صدرها كرضيعٍ تخشى عليه من الحياة! أغمضت عينيها وأطلقت كل ما في جوفها من دخان جنباً إلى جنبٍ مع أنينِ مسموع، كلُّ ما كانت تريده في بادئ الأمر كان مجرد الاستمتاع بلحظاتٍ من شهوة محرمة في المنزل، حتى أنها وضعت أحمر شفاهٍ كطقسٍ مقدس لتترك آثار نبيذها على أطراف سيجارتها السرية، لكن ذلك القميص أبحرَ بها بعيداً، وتوالت موانئها حتى وصلت إلى هنا .. _ هل تستحق كارمن كل هذا الحب ؟! ألا أستحقه أنا الأخرى ؟!
قالتها وهي تهز رأسها لأنها تعرف أن هذه القصائد المصابة بالأرق ما هي إلا أمانةٌ من صديقتها كارمن تخفيها لها عندها بعيداً عن رقابة إخوتها! أطفأت سيجارتها على عجل وبدأت تبحثُ بشوقٍ عن قصيدة ٍ كان حبيب كارمن يصف فيها قبلتهما الأولى، أرادت التلذذ بها والرحيل معها برفقة سيجارة جديدة، وما إن بدأت بقراءتها، حتى اجتاح إعصارٌ صاخب ربيعَ غرفتها!
صرخت والدتها وهي تقلب نظرها بين السيجارة الملفوفة والأخرى المطفأة. والخنجر والصندوق المفتوح: لين. ما هذا؟ ماذا تفعلين هنا وحدك؟ ناديتك أكثر من مرة! أعطني هذه الورقة ..
خطفت الورقة من يدها كلبوة تصطاد وما إن بدأت بالقراءة حتى استشاطت غضباً وعاودت الصراخ في وجه ابنتها المكلومة: ما هذا أيتها الوقحة .. ما هذا الذي تقرئينه .. من فعل بك هذا!
فأجابت بتلعثم وكأنها تتعلم الكلام للمرة الأولى: _ أقسم بالله ليست لي .. اقرئيها حتى نهايتها .. إنها لصديقتي .. اقرئيها ستجدين اسمها ..
هدأت العاصفة عندما تهادى نظرها على اسم كارمن في نهاية الورقة! جلست بجانب لين وبدأت تنصحها بالابتعاد عن هكذا نوعٍ من الأصدقاء المنحلين! فيما كان كل ما يجول في خاطر لين في هذه اللحظات، جملة واحدة فقط قالتها لها كارمن ذات مرة: (في محيطنا المريض هذا، اقتني سلاحاً .. اقتني مخدراً .. اقتني ما شئت ِ من المحرمات .. ولكن إياكِ أن تقتني حبيباً