تزامن موت جدتها في دمشق مع إنطلاق شرارة الحرب، لتدرك إيميلي سرّي أن عليها جمع أجزاء مبعثرة من الذاكرة.
إنها حاجة شعرت بها لإعادة التواصل مع جذوري وإرث والدي الثقافي والحضاري
تقول السينمائية الشابة إيميلي سرّي، التي ولدت ونشأت وكبرت في مدينة مونتريال في مقاطعة كيبيك من أب سوري الأصول وأم بلجيكية.
الشعور الذي اجتاحني وقضّ مضجعي من أن سوريا قد تزول ولا تعود موجودة على الخارطة، جعلني أشعر بالحاجة إلى إعادة رسم أجزاء الذاكرة والتصالح مع ماضٍ موروث ولكنه ليس مُعاشاً.
نقلا عن السينمائية إيميلي سرّي
يؤلم السينمائية أنها لا تعرف وطن أجدادها ولا لغته ولا ثقافته وهي حينما ستتعرف عليه سيسهل عليها ربما فهم والدها وملامسة مشاعره وأحاسيسه. ستتصالح إيميلي ربما مع المشاعر المتناقضة التي تعيش في كيانها، القرب والبعد في آن معاً، الانتماء والانفصال في وقت واحد عن جرح وطن وذاكرة شعب.
تقدم سرّي وصفة لكل مهاجر ولكل شخص مزدوج الهوية للتصالح مع ذاته ومع ماضيه.
تعلّمنا السينمائية كيف نتذكر الأشياء التي لم نختبرها بأنفسنا، كيف نتذكر من خلال تجارب وصور الآخرين.
أتذكر، لا، لا أتذكر
تتكرر هذه العبارة في الفيلم الطويل الباكورة (نافذة جديدة) في مسيرة السينمائية التي قدمت في الماضي أفلاما قصيرة. من يتذكّر يتوّجع والنسيان نعمة في حالة السوريين الذين عاشوا ويلات الحرب الأخيرة وأجبروا على الفرار من بلدهم. وإيميلي سرّي نفسها لا تريد أن تتذكر سوى العّد من 1 إلى عشرة في ألف باء اللغة والثقافة العربية.
كنت أردد الأرقام باللغة العربية وراء والدي وأنا لم أحفظ سوى البدائي منها، أجهل تماما اللغة العربية وأجد في ذلك عائقا للتواصل مع الأهل والأقارب في الشام.
نقلا عن الكندية السورية البلجيكية الأصول إيميلي سرّي
وكأن ذاكرة إيميلي لا تريد الاحتفاظ من الماضي إلا بعهد طفولة جميلة غنّاء، عندما كان العمر يمرّ على مهل وكانت سنابل القمح في الحقول وأنغام محمد عبد الوهاب في الراديو والأحلام الوردية في قصص قبل النوم يتلوها والد على مسامع طفلته.
هذا لأن إيميلي سرّي قد تصدّق أن الناس في سوريا خالدون لا توافيهم المنية وأن الوقت هناك يمّر على مهل
.Début du widget Vimeo. Passer le widget ?https://player.vimeo.com/video/610801175Fin du widget Vimeo. Retourner au début du widget ?
لهوية فيلم أحلام دمشق
خصوصية وفردية
هوية الفيلم متشعبة على غرار الذاكرات والعناصر التي تكّونت بها الأحلام الدمشقية
.
الفيلم وثائقي-تسجيلي-روائي في آن معاً، خصوصا أن مخرجته متخصصة في الفنون البصرية-الإعلامية والتصوير الفوتوغرافي. استخدمت إيميلي سرّي في فيلمها صورا وفيديوهات من أرشيف والدها وأفراد عائلة سرّي في سوريا ولبنان ومقابلات مع قادمين سوريين جدد إلى مونتريال. هذا في الشق الوثائقي التسجيلي، أما الشق الروائي الدرامي فكان في تخيّل مشاهد وكتابة السيناريو لها هنا في مونتريال.
بعد كل ما رأت وشاهدت وسمعت، شرعت إيميلي سرّي إلى إعادة الصياغة بأدواتها السينماتوغرافية المتمكنة. على حسب فهمها وتصوّرها وانصهارها بكل الذاكرات والروايات والشخصيات التي التقتها وحرّكت فيها وجعا يسكنها منذ نعومة أظفارها.
تصيغ إيميلي سرّي بلغتها السينمائية عدة سيناريوهات لتقديم الأحلام الدمشقية
بأفضل صورة ولتعزيز الفكرة الأساسية التي دفعتها إلى إنجاز هذا الفيلم، وهي إيجاد السبل لتحقيق التصالح مع الماضي.
في توصيفها للتحديات التي تنتظر المهاجر السوري في كندا، تكتفي السينمائية بتصوير السوريين الواصلين حديثا إلى مونتريال في مهّب الرياح والعواصف الثلجية، التي تشكل أحد أكبر العوائق للاندماج.
موهبة أخرى عند المخرجة الشابة وهي الكوريغرافيا والرقص التعبيري. ففي أحد المشاهد، تقدم سرّي رقصا تعبيريا مع عدد من بطلات فيلمها من السوريات القادمات حديثا إلى مونتريال. ترتدي هذه النساء ملابس سوداء، وتزّين التمائم وجوههن وتسردن عبر حركات أجسادهن وجعا وألماً، خوفاً وقلقاً، إنكساراً وحزناً مطبقا، في رقصهن التعبيري تتحوّل الأحلام الدمشقية
إلى كوابيس مظلمة.
أكثر المشاهد إيلاماً: المدقّات والهاون
ضجيجٌ مزعج، صوتٌ مُدوٍ يصّم الآذان، ثلاثة رجال يضربون بالمدقة الهاون النحاسي مع كل الأصوات المزعجة التي قد تصدر عن هذا التصعيد لوتيرة الضرب بشكل متكرر متواصل لعدة لحظات، وكأن عدسة الكاميرا تجمدت على هذا المشهد.
الصورة التي سبقت هذا المشهد المدوي هي لمكان ما في سوريا حيث هناك دمار واستهجان وصراخ وصور كثيرة للرئيس السوري بشار الأسد.
من الصعب أن نعبّر في السياسية بشكل مباشر في سوريا، وقد اخترت التعبير بلغة أخرى. عبر الصوت الصاخب القوي، أردت أن أعبر عن ثورة الشعب ونقمته و صراخه من شدّة الألم.
نقلا عن إيميلي سرّي
استخدام الصمت لم يكن اعتباطيا مجانيا ولا هو خطأ سينماتوغرافي وإن ملّ منه المشاهد
لحظات صمت كثيرة سبقت الإجابة على سؤال السينمائية من قبل أبطال فيلمها من السوريين الواصلين حديثا الى كندا.
تشرح سرّي بأنه عندما نحاول أن نتذكر، يكون هناك الكثير من الصمت، وهي أرادت أن تترك مساحة لذلك، لاحترام حميمية ودلالات تلك اللحظات.
الصمت بالنسبة لي هو التعبير الصوتي للذاكرة. في اللحظة التي نريد أن نتذكر فيها يسود صمت مطبق هو صوت الذاكرة الذي لا يسمع.
نقلا عن السينمائية إيميلي سرّي
وهكذا شاءت سرّي أن تترك المساحة للصمت الطبيعي الذي دخل فيه هذا الراوي لوجعه وذكرياته الأليمة أمام الكاميرا في اللحظة الحاضرة.
لم تشأ المخرجة حذف هذا الصمت المزعج الذي هو بالتأكيد ليس مجانيا أو اعتباطيا، لا بل هو مقصود من قبلها، ألا يسود الصمت أيضا عندما نكون غارقين في الأحلام، منفصلين عن عالمنا الخارجي ملتصقين بعالم آخر؟
هل تحاول إيميلي سرّي أن تجد بلد والدها وأجدادها في الأحلام وتغمض جفنيها عليه؟
هل وجدت بـ أحلام دمشق
بلدا ضاع منها أو تخاف أن يضيع منها؟
في كل الأحوال، هناك قناعة أكيدة توّصلت إليها إيميلي سرّي وهي أن سوريا ليست في طريق الزوال ولن تزول من الوجود لأن أهلها ها هنا وهم من يصنعون سوريا
، هذا على الأقل ما خرجت به عندما أبصرت “أحلامها الدمشقية” النور.
هذا وتمنت المتحدثة المزيد من الكرامة الانسانية والحرية لسوريا وشعبه